Culture Magazine Thursday  02/02/2012 G Issue 361
عدد خاص
الخميس 10 ,ربيع الاول 1433   العدد  361
 
الجيوسي والمشروعات الكبيرة
طوماس طومبسون وإنغرد هيلم «مقال مشترك»

 

كانت الدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي - محررة كتاب إرث إسبانيا المسلمة، الذي كان الأكثر مبيعا على الإطلاق عند دار النشر الهولندية العريقة، برِيلْ، حصن الاستشراق الأوربي - كتبت في صيف عام 2000 عن خطتها وأملها في عمل سلسلة من الكتب عن القدس، مركزة بصورة خاصة على تاريخها وثقافتها. وقد أظهرت الدكتورة سلمى قدرة عجيبة على إلهام من حولها وعلى تشجيعهم على عمل ما لا يمكنهم محاولته بمحض أنفسهم. وقبل أن نعلم كليا كيف يمكننا المساعدة في مثل هذا المشروع الممتع، نوقشت وقُبلت قائمة من 13 باحثا ومتخصصا من ستة بلدان مختلفة، كانوا معروفين جيدا لأعمالهم عن تاريخ القدس القديم ومعالمها الأثرية. كان لا بد لهذا المشروع أن ينجح. إن هذه السلسلة الكامنة في ذهن د. سلمى، من منظور مؤرخ للتاريخ القديم وباحث إنجيلي مثلي، تكاد لا تكتمل بدون جزء عن المدينة القديمة تناقَش فيه مكانتها في الإنجيل. وقد تبودلت الرسائل خلال الأسبوعين التاليين، وبدون أن نشعر، كانت الفكرة قد اتفق عليها وهي أن نحرر هـذا الكتاب.

وقبِلَ المشاركة كلُّ من دعوناهم إليها! وإذ تشجعنا بهذه الثقة، تحركنا سريعا من التخطيط لعدد من المقالات البحثية عن تاريخ القدس القديم إلى إقامة مؤتمر دولي في عمّان حول تاريخ مدينة القدس وتقاليدها ونشر ما يُقدَّمُ في المؤتمر من إسهامات باللغتين العربية والإنكليزية. وكان مخططنا هو أن يُدعى للمؤتمر عدد محدود من الأساتذة والباحثين من علماء التاريخ والآثار من الأردن وسورية وفلسطين. ولسوء الحظ كان اختيارنا لتاريخ مؤتمرنا سيئا جدا - بعد تفجير مركز التجارة العالمي في نيويورك بشهر ويوم؛ ولكن رغم الجهل بما سيكون عليه الحال، اجتمعنا بعد شهر يوم بدأت القنابل تنهمر على كابول لكي نبحث تاريخ

القدس العتيقة وارتباطها الديني في لجة تقارير الأنباء التي تتحدث عن التمييز العجيب بين القنابل والإرهاب، بين الثأر والحرب المقدسة. وهكذا وضع هذا العنف المؤتمر في سياق مبالغ به لا يصدق. فكيف لنا أن نختلق جوا نبحث فيه ما لدى المؤرخين وعلماء الآثار ودارسي الإنجيل من عادات طال عليها الزمن في تحوير الماضي بما يلائمنا؟

بكل ما لديها من حيوية وقوة، بوضوحها وتفهمها المستند إلى تجربة عميقة، أوضحت لنا الدكتورة سلمى الطريق. وإذ رحّبتْ بضيوفها الأوربيين والأمريكيين في حالٍ يُهدّد بحرب مزعزعة ونزاع إقليمي، فإنها كانت ترى في نفسها «مواطنة عالمية» ملاحقة - معنا جميعا - بما في مجتمعاتنا من تعصب قومي وهاجس عرقي ضيقين. لقد تكلمت عن قلقنا وتضامننا المشتركين بالنسبة إلى التدمير الذي حل بنيويورك والرد الأمريكي في قصف أفغانستان وكيف يمكن ذلك أن ينعكس على اهتمام مؤتمرنا بالقدس. وقد ساعدتنا، من غير اعتذار، في التضامن مع محنة الشتات الفلسطيني: «أيمكن لمحنة شعب أن تكون، في محاولة تخفيفها، سببا كافيا لخلق معاناة جديدة لشعب آخر بريء؟» لم تنكر الدكتورة سلمى معاناة اليهود؛ فقد أقرتها باعتبارها عاملا أساسيا في تفهمها وكانت ثاقبة النظر حين أشارت إلى الأندلس - إسبانيا المسلمة - باعتبارها فترة استثنائية للاعتراف والتضامن اليهودي والإسلامي المشترك. وقد ساد اجتماعاتِنا كرمُ الدكتورة سلمى وانفتاحها العقلاني العظيم منذ لحظة وصولنا إلى المطار. لقد استقبلتنا كأصدقاء، بكرم وحسن ضيافة. فكان ما حققه مؤتمرنا من نجاح بسبب الانفتاح والاحترام اللذين تميزت بهما هي وأصدقاؤها في عمّان.

خلال السنين التالية، أتيح لنا التعرّف شخصيا على الدكتورة سلمى، فدهشنا لجهودها المشفوعة بتأهيلها العالي لنشر الثقافة العربية وآدابها في الغرب، ذلك العالم الذي كان دائما معاديا وجاهلا. كانت الدكتورة سلمى دائما مضطربة في أعماقها لسوء تمثيل الثقافة العربية وسوء فهمها في الغرب، وللأزمات الخطيرة التي يواجهها الفنانون والمفكرون العرب في البيئة السياسية المرعبة في العالم العربي اليوم. ولكن ما آل إليه الشعب الفلسطيني خاصة كان قلقها الذي لا يهدأ أبدا، وكابوسا بحيث «يعجب المرء إن كانت حالة الرعب التي يعيشها الفلسطينيون اليوم سوف تُقرأ قريبا في رواية رؤيوية ذات أبعاد مرعبة. إن العقاب الخطير لشعب بأكمله يمثل يوميا أمام عيون العالم. وبالنسبة إلى العرب، لقد تحطمت صورة العالم القديمة إذ أخذ يظهر على الأفق وضع مفجع من خلال القصة التي تتكشف للإستراتيجية العالمية الماحقة. وهذا الحكم المخيف، الذي يفرض نفسه نتيجة الكثير من العمل الأسطوري على يد الآخرين، لن يحتاج إلى فعل متكلف للأساطير لتأكيده. إنها لا تحتاج إلا إلى أدوات الفن الحقيقي.... إن الوضع الحالي يحمل فكرة الرؤيا الحديثة التي تصرخ لتصويرها، ليس فقط في الكتابات التاريخية، وهي كثير، بل فوق كل شيء في الرواية، وفي الفروع الأخرى للفن: لقد آن أوان لوحة غويرنيكا الفلسطينية.»

كانت المقتطفات التي أصدرتها «بروتا» أدواتٍ مهمةً في جهودها لاجتذاب الاهتمام اليقظ في الغرب بما خبره الشتات الجديد من الشعراء والكتاب الفلسطينيين والعرب. ويعدل ذلك في الأهمية الدراسات التاريخية والثقافية التي أنتجتها رابطة الشرق والغرب والتي أبدعت ما أشارت إليه الدكتورة سلمى إشارةً أنيقة على أنه «جسر للتعاطف بين الشعوب.» في الوقت ذاته، حين قررت السياسة الغربية السيطرة على الشرق الأدنى بالتدخل العسكري الجامح، الذي أتلف كثيرا من ثقافاته القديمة والحديثة، وجدت الجامعات في الغرب أن تلاميذها أخذوا يعبّرون عن اهتمام متنام في دراسة لغة العرب وأدبهم وثقافتهم وتاريخهم. وقد يسرت مجموعات الدكتورة سلمى المترجمة إلى اللغة الإنكليزية مثل تلك الدراسات. وكجزء من مشروعها ل»رابطة الشرق والغرب»، كان الكتاب عن تاريخ القدس القديم، وهو الذي تعاونّا عليه، بتركيزه على الدور الأسطوري المعقد ولكنْ المركزي للمدينة ضمن التقليد التوراتي، مع مشاركته في الأهداف الأولية لمنشورات «الرابطة وقد قدم هذا أيضا للدكتورة سلمى التحدي الصعب لفهم «التديّن الموروث» الذي موّه المخططات السياسية الحديثة حول القدس بمزاعم توراتية عتيقة. وقد تكون هذه الكلمات جافة خشنة بما لا يليق، لولا وضوحها إزاء الغموض الجوهري للجانب الديني من الحالة الراهنة. في مواجهتها للأساطير الدينية في تاريخ فلسطين، كانت الدكتورة سلمى دائما واضحة جدا حول مسؤولية هذه الادعاءات الغيبية عن تكرار المعاناة في الحقائق المحطمة على أرض فلسطين. كانت القصص القديمة مصدر الخطر، فبأناقتها الموروثة وقوتها الشعرية الهائلة لوثت المجاري العميقة للغتنا. رهيبة تلك السيطرة التي تفرضها الأسطورة على العقل الإنساني، حتى أن الذكي قد يتقبل «سوء التمثيل المتعمد للماضي والحاضر.» أما التفاؤل الذي جابهت به د. سلمى مثل هذا التضليل - بالنيابة عن علماء الآثار والباحثين التوراتيين والمؤرخين - كان متحديا بقدر ما كان مدهشا. فهل نكون على مثل ما تريدنا من أمانة؟ إنها تقف مع الحقيقة في كتابة التاريخ وتصر أن كل أسلوب آخر إنما يقنع الجهلة والمنحازين قصداز ما أعظم ميزة العمل معها!

كما يعلم أغلب أصدقاء سلمى، لا يحبُّ أحدٌ أن يبتعد عنها - خاصة بعد زيارة لبضعة أيام كانت فيها الأحاديثُ غنية والطعام كذلك. فقدرتها على جمع الناس معا وخلق جوٍّ من الصداقة المتبادلة والاهتمامات المشتركة صفة عندها لا يتمتع بها إلا القلة. وتشهد على ذلك المنشورات التي تحمل اسمها كمحررة أو مؤلفة، كذلك المؤتمرات والاجتماعات التي تنظمها. وبالإضافة إلى تنوير العالم عموما، نرى في نموذج الدكتورة سلمى في العالم الأكاديمي هبةً لكل امرأة تصر على فعل ما تراه قيِّما في حياتها. وما نجده من عطف وحبٍّ في حياة الدكتورة سلمى وعملها، قد عبّرت عنه هي بدقة متناهية في إشارتها إلى القصيدة العظيمة التي قالها محمد إقبال في مسجد قرطبة. حين استمعتُ إلى هذه القصيدة في ترجمتها إلى الإنكليزية، «لمَسَتْ فلسفةُ محمد إقبال في العشق عصبا في صميم ذاتي، وكان له أن يصبح نبراسا لمسلكي، ومبدأً أستمسك به وأكتسب القوة منه حين تعترينا المصاعب. «العشق» كلمة عربية تعني أقصى الحب الذي يمكن أن يبلغ حدّ العبادة، ولكنها تحولت على لسان هذا الشاعر الباكستاني العظيم لتعني العاطفةَ الدينية المُحبة للآخرين، العاطفةَ التي تُلهم الناس في بناء المبادئ العظيمة وإدامتها، الحماسةَ التي تحفزهم إلى إعلاء اسم الله، أو الفن أو الكمال. هناك شيء معدٍ بعمق في قصيدة محمد إقبال. فإذ هي تُحيي ذكرى ماض عظيم، فإن عظمتها الباقية لا تكمن في قدرتها على استمطار دموع الأسف والحزن، بل في استثارة إرادة توكيد الحياة والبناء مرة أخرى. فبالنسبة إلى إقبال، إن الإنسان المؤمن لا يُقهَر، وحين يستولي «العشق» عليه يستطيع اجتراح المعجزات.»

أن يكون المرء حول سلمى، مضيفا كان أم ضيفا، إنما هو ميزة تملأ القلب بالثناء.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة