Culture Magazine Thursday  02/02/2012 G Issue 361
عدد خاص
الخميس 10 ,ربيع الاول 1433   العدد  361
 
ثلاثون امرأة ... في امرأة
أ‌. د. عبدالواحد لؤلؤة

 

بدأت التعاون مع الدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي عام 1980 مع خطواتها الأولى في تأسيس مشروع «بروتا» PROTA لترجمة الآداب العربية إلى اللغة الإنكليزية. أعجبني طموحها المتوثّب، فلم أتردّد في العمل معها واحداً من المستشارين الكثار من الشرق والغرب، ممن آمنوا برسالتها في تعريف العالم الناطق بالإنكليزية، وهي أكثر اللغات شيوعاً في العالم، بما لدى العرب من ثقافة ومثقّفين، وشعراء وكتّاب، وتراث عريق، بقيت أعمالهم بعيدة عن متناول المثقّف الغربي عموماً، إلاّ من تيسّرت له معرفة باللغة العربية، أو كان من المتخصّصين في الجامعات.

وبين البدايات، وعلى امتداد هذه المسيرة التي شارفت على ثلاثين سنة، أخرجت الدكتورة سلمى للناس عشرات الكتب من عيون الأدب والثقافة في العربية، نَشَرَتْها في ترجمتها بالإنكليزية أمّهات دور النشر في أمريكا وأوروبا، مثل مطبعة جامعة كولومبيا، ومطبعة جامعة تكساس، ودار نشر «بريل» في هولندا. وانتشرت تلك الكتب المترجمة والموضوعة في أقطار الغرب انتشاراً مشجّعاً، يضع أمام المثقفين في العالم مثالاً يعينُهم على فهم أفضل ما لدينا من الثقافة التي كانت تعاني من الإهمال أو التشويه على أيدي فاعلين جَهَلَةٍ أو حاقدين.

لقد أدركت الدكتورة سلمى أن بالعالم حاجةً للإطلاع على ثقافة الآخر، هذا الآخر الذي أيقظ العالم الأوروبي من رقدة العصور الوسطى. فبادرت للتخطيط وانتقاء الأعمال الثقافية الكبرى من عصور عربية شتّى، تحاول إقناع المتموّلين العرب برصد نزر يسير من أرباحهم لخدمة الثقافة العربية عن طريق ترجمة مختارات منها إلى الإنكليزية. وكانت ردود الفعل مخيّبة للآمال في الغالب. بل كان سَدَنةُ الثقافة في بلادنا ينظرون بشيء من الاستغراب إلى المشروع لأنه - هل أقولها؟ - من صنع امرأة! لكن هذه امرأة صلبة العود، لا تعرف التراجع ولا تفقد الأمل. ولما حصلت على بعض الدعم من جهة ثقافية رسمية وأخرجت كتاب الشعر العربي الحديث استحوذ الكتاب على اهتمام الجامعيين والمثقفين والشعراء في أميركا وأورپا. وكان ذلك فاتحة خير دفعت بصاحبة المشروع إلى مواصلة العمل، وتوالت الإصدارات، وتوالى الدعم، ولو أنه دعم يبقى دون مستوى الطموح. ولكن: تلك آثارنا تدلّ علينا!

والذي ساعد الدكتورة سلمى على النهوض بهذا المشروع الكبير، والاستمرار فيه كذلك، معرفتها بعدد كبير من الأدباء والمتخصصّين في العالم، بحكم تدريسها في عدد من الجامعات العربية والأجنبيّة، ومساهمتها في عدد كبير من المؤتمرات الثقافية في أوروبا وأمريكا، وعضويتها في عدد من الروابط الأكاديمية والثقافية. ومن بين هؤلاء كثير من المتحمّسين للثقافة العربية، فكانوا جميعاً جاهزين للتعاون في هذا المشروع الكبير. مثال واحد على ذلك: المؤتمر الذي أقامته في غرناطة الأندلس عام 1992 بمناسبة مرور خمسمئة عام على سقوط الحكم العربي هناك. جنّدت الدكتورة سلمى لهذا المؤتمر اثنين وأربعين من أبرز المهتمّين بالثقافة العربية في الأندلس، من الجامعات الأمريكية والأوروبية، ومن باحثين من إسپانيا وفرنسا، وبريطانيا وألمانيا والهند.. وپورتو ريكو، إضافة إلى خمسة باحثين عرب متميّزين، كتبوا أبحاثاً في شتّى مناحي الثقافة الأندلسية، بالإنكليزية والفرنسية والإسپانية، مما أبهج الملك خوان كارلوس الذي بسط رعايته على المؤتمر. وقد صدر الكتاب بالإنكليزية بعنوان «تراث إسپانيا المسلمة» The Heritage of Islamic Spain عن دار نشر «بريل» عام 1992، وتوالت منه طبعات لاحقة، آخرها طبعة ورقية عام 1994. ثم صدر الكتاب بترجمة عربية بجزءين عن «مؤسسة الوحدة العربية» ببيروت 1998 بعنوان: الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس. وقد ساهمتُ أنا وزوجتي بترجمة عشرين بحثاً من أصل ثمانية وأربعين بحثاً كتبت بالإنكليزية أو ترجمت عن الفرنسية أو الإسپانية. وكان ما ترجمناه يقع في موضوعات العلوم الإنسانية من شعر وآداب وفنون.

وقد تطّور نشاط «پروتا» فتوسّع إلى «رابطة الشرق - الغرب» وتواصل في إحياء التراث الثقافي العربي والتعريف بالآداب العربية المعاصرة، وبخاصة الأعمال الفلسطينية في الشعر والرواية. وقد صدرت هذه الكتب بترجماتها الإنكليزية مثل كتاب الشعر العربي الحديث الذي نشرته مطبعة جامعة كولومبيا في نيويورك عام 1987 و1990 ثم صدرت منه طبعة ورقية. وثمة كتاب أدب الجزيرة العربية الذي نشرته دار «كيگن پول» عام 1988، وبعده جامعة تكساس عام 1990 و1994. ثم صدر كتاب الأدب الفلسطيني الحديث عن منشورات جامعة كولومبيا عام 1992، 1993، 1994. ومن أحدث ما صدر كتاب حقوق الإنسان في الكتابات العربية.

اتبعت الدكتورة سلمى أسلوباً فريداً في نشر الأعمال العربية المترجمة إلى الإنكليزية. فهي تختار الأعمال، قديمها وحديثها، بهدي من ذائقتها الشعرية الأدبية الأكاديمية. وتعرض ما تختار من أعمال على من تجد لديه القدرة والخبرة من المتخصصين العرب، ممن يتقنون اللغة الإنكليزية، ويحسنون الكتابة بها، فيقوم هؤلاء بالترجمة التي تعرضها الدكتورة سلمى - بعد تدقيقها بوصفها المحرِّرة وصاحبة المشروع - على متخصِّص بالموضوع من الناطقين بالإنكليزية، ليُجري على الصيغة المترجمة ما يكسبها طلاوة اللغة الإنكليزية، لتكون سائغة للقارئ الأجنبي. وفي حالة «ترجمة» الشعر العربي، وهو أمر ذو صعوبة خاصة، تتقصّد أن يكون المراجع «المحرِّر» الناطق بالإنكليزية شاعراً معروفاً بلغته، لا علم له باللغة العربية، لكي يكون تركيزه على النصّ المنقول أمامه، دون النظر إلى الأصل العربي. وهذا ما جعل كتاب الشعر المترجم يكاد يخلو من «آثار الترجمة» عن لغة الأصل. وبهذه الطريقة انتشر كتابها الأول عن الشعر العربي الحديث انتشاراً واسعاً في الجامعات الأمريكية التي تُعنى بدراسات الأدب العربي وموضوعات الشرق الأوسط. وقد نشرته مطبعة جامعة كولومبيا بطبعات عديدة، بعد أن أصبح المرجع الرئيس في دراسة الشعر العربي الحديث في الجامعات الأمريكية والبريطانية. وقد جرى ذلك «القانون» على الكتب المترجمة اللاحقة لضمان الدقّة في العمل.

لا تعرف هذه الإنسانة العجيبة معنى التوقّف أو الراحة. وأنا أشفق على صحتها إذ تنهض باكراً، بعد سَهَر طويل في الغالب، وتبدأ العمل. وقد تكلمني على الهاتف في منتصف الليل أو الثامنة صباحاً، من بلد بعيد، دون أن تدرك الفرق في التوقيت، وهي في غاية النشاط، وتعجب من صوتي الخافت، وقد أفقتُ لتوّي من النوم. وتبدأ سلسلة من الطلبات، وتسرد كثيراً من الأخبار عن كتاب تأخرّ في المطبعة، وآخر على وشك الصدور، وناشر يطالب بدفعة ثانية من أموال لم تصل بعدُ ممن وعَدَ بها. ثم تقفز إلى فكرة عن مشروع جديد، تطلب رأيي فيه، فلا أملك إلاّ الموافقة.. مبدئياً.. على أن نناقش التفصيلات لاحقاً، بعد ما أصحو تماماً..

ليس لدى المشروع مصدر مالي، لذا فإن الدكتورة سلمى تعتمد على دعم من جهات ثقافية حكومية، مثل وزارات الثقافة والإعلام في بعض الأقطار العربية، أو من بعض أثرياء العرب من المعنيين بالثقافة والتراث.. وفي حالة مؤتمر غرناطة وجدت طريقها إلى «مؤسسة أغا خان» التي دعمت المشروع. تتوزع الأموال مكافآت للمترجمين والمدققين والمراجعين والناشرين. ولا يخفى على أي منصف ما يتطلّبه هذا الجهد الهائل الذي تقوم به مديرة المشروع من اختيار النصوص، واستحصال الموافقات على ترجمتها، ومتابعة الترجمة والتدقيق والاتصال بجميع العاملين في أرجاء المعمورة، بوسائل الاتصال المختلفة من هاتف وفاكس وسفر ومقابلات. وهذا ما يوحي بأن وراء العمل مؤسسة كاملة بموظفيها ومكاتبها. ولكني أعلم أن المشروع من عمل إنسانة واحدة، تقيم في شقة متواضعة في مدينة كمبردج بولاية ماساچوستس الأمريكية، على مقربة من مكتبات جامعة هارفرد ومراجعها الهائلة، وعلى مقربة من عدد من أساتذة الجامعات الأمريكية وكبار المتخصّصين في فروع الثقافة. وقد تنتقل للإقامة في لندن عند قريب أو صديق، أو في بلد أوروپي آخر إقامة مؤقتة، تتابع منها نشاطاً لا يتوقف. وقد تنتقل للإقامة في عمان بالأردن.

ولأنني تعاونتُ مع الدكتورة سلمى طوال هذه السنين، قلتُ عنها قبل أكثر من عشر سنوات إنّها «عشرون امرأة في امرأة» وقد ردّد ما قُلته عدد كبير من النّقاد والمهتمين بهذا المشروع الحيوي النفيس. وفجأة، وجدتني موضوع اقتطاف!

واليوم أقول إنّها «ثلاثون امرأة في امرأة».

أبو ظبي

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة