Culture Magazine Thursday  02/02/2012 G Issue 361
عدد خاص
الخميس 10 ,ربيع الاول 1433   العدد  361
 
رؤاها المتعددة
د. أمنية أمين

 

سلمى الخضراء الجيوسي من ألمع شخصيات هذا العصر، وذلك بسبب شخصيتها المتعددة الجوانب المنفتحة دوما على آفاق جديدة. إنها شاعرة، وناقدة، ومؤرخة للأدب، ومحررة أنطولوجيات، وأستاذة، وباحثة، وعاشقة للسفر وزوجة ديبلوماسي أردني، وأم، وفوق كل شيء سيدة حداثية التوجه ذات رؤى متعددة. إنها بلا شك تقف أعلى من جميع زملائها بسبب التزامها الشديد بعملها الذي كرست له جزءا كبيرا من حياتها. وهي تقدمه في قناتين كبيرتين: عبر الترجمة حيث أعدّت مجموعات كبيرة للأدب العربي المترجم ودفعتها إلى العالم مجموعة إثر مجموعة، هذا من جهة؛ وعبر الدراسات الحضارية الشاملة من جهة أخرى. تقول هي إن عملها نبع من « إكتشافها فقر المكتبة العالمية بالثقافة والأدب االعربيين في اللغات العالمية وهو ما يكمن وراء سوء تمثيل الثقافة العربية الإسلامية في الغرب». فقررت «إن هذا الوضع يجب أن يجابه بإصرار». هذا دفعها إلى تأسيس بروتا - ورابطة الشرق والغرب لنشر الثقافة العربية الإسلامية وتاريخها وآدابها. وقد أثمر عن عشر أنطولوجيات شاملة مترجمة من الأدب العربي وسبعة كتب كبيرة للدراسات الحضارية وعددا طيبا جدا من الكتب ذات المؤلف الواحد. هذه الأعمال تهدف إلى تقديم أفضل الأمثلة الإبداعية للأدب القديم والحديث إلى العالم الناطق بالإنجليزية.

ثمة كثيرون يستطيعون الترجمة ولكن لم يستطع أي إنسان أن يَبرز في إنجازه كما برزت سلمى لأن عملية الترجمة بين يديها تعتمد على شروط كثيرة أولها التعاون مع كتاب وشعراء إتجليز وأمريكان معروفين. إن موهبة الجيوسي الأولى هي مقدرتها على التفاعل مع روح عصرها ومع رؤيا عالمية للثقافات. ما أثر بي كثيرا عندما رأيتها للمرة الأولى هو تلك العفوية في تعاملها مع الآخرين من أعمار مختلفة والسرعة التي تلتقط بها عيناها الجمال حولها، وفوق كل شيء مقدرتها على المحافظة على رؤيا لا تعرف التفاوت المغرض أو الانحياز للذات وللآخر. لقد شاهدتها مرة بعد مرة تعطي رأيها الإيجابي عن أعمال ومواهب كتاب قد لا تكون على وفاق معهم في آرائهم ومواقفهم ومواصفاتهم الأخلاقية. فهي تختار ما يجب ترجمته من الآخرين وفقا لهذا الموقف الموضوعي الذي لا يعرف الانحياز: وهو موقف نادر جدا في العالم العربي اليوم.

بهذا التفاني أبدعت سلمى مشروعا يخدم الإنسانية جميعها في محاولتها أن تغير الوضع الذي رأت الثقافة العربية متردية فيه، وبهذا أحدثت فرقا في العالم اليوم. وقد رأت بعد مدة بسيطة من بدء عملها الواسع في الترجمة أن «نشر الدراسات الثقافية المبدعة التي يكتبها أفضل الباحثين من عرب ومستعربين، إن حدثت، ستؤدي خدمة أوسع من محض الترجمة.» ولهذا الهدف أسست مشروع «رابطة الشرق والغرب» وكان أول إنجازات هذا المشروع الجديد كتاب تراث إسبانيا المسلمة الذي صدر سنة 1992 بألف ومئة صفحة و49 دراسة ألفها 42 باحثا مختصا ولقي حالا نجاحا باهرا فكان أكثر كتب دار بريل مبيعا منذ نشأتها في القرن الثامن عشر وأعيدت طباعته مرات كثيرة كان آخرها صيف 2010!

إن المرء لا يستطيع اختصار الحديث عن شخص ما بصفحة أو صفحتين، ناهيك بشخص له إنجازات سلمى المتفوقة. ولكن لعل اهم ما يصفها هو ما قالته هي يوما لي متذكرة أمها في آخر لقاء لها معها إذ قالت لها: « تذكري دائما يا سلمى أن حظك في يدك». هذه نصيحة لم تنسها يوما قط.

وهي تتحدث عن جدتها لأمها التي كانت سباقة لغيرها من النساء في زمنها

في شدة إعجابها بالمخترعات التيكنولوجية في أيامها ومتابعة أخبارها. وأضافت سلمى إنها دائما تتذكر جدتها عند الإعلان عن اختراع جديد متسائلة كيف ترى كانت رانجي جول ستستقبل هذه الاختراعات والاكتشافات لو عادت فجأة إلى الحياة؟ ولعل بإمكاننا أن نقول هنا إن حياة سلمى قد ورثت عن جدتها التركية المثقفة ألفة الروح وانسجامها مع الرؤيا الحداثية للكون وتقديرها للتجديد الهائل الذي دخل إلى حياة الإنسان في العصر الحديث.

مما لا شك فيه أن سلمى تتمتع بخلفية فريدة ساعدتها على أن تكون متعددة الاهتمامات. ولدت سلمى في شرق الأردن لأب فلسطيني وأم لبنانية. وقد ذكرت لي إنها نشأت في بيت مثقف محاطة بالكتب عن الثقافة العربية الإسلامية وعن الثقافة الغربية أيضا. واستمعت بلا نهاية للقصص عن التاريخ العربي الإسلامي والروايات الأسطورية التي تتحدث عن الشجاعة والحب والإحسان والعطاء في الثقافتين العربية والغربية وبشكل خاص في القصص المتعددة التي كانت أمها تختار روايتها لهم صغارا.

وطيلة حياتها طفلة وشابة شاهدت إصرار أبيها على توطيد العدالة للمجاهدين الفلسطينيين ورأت ما حاق به من تعذيب وسجن ونفي. وبقي هذا كله معها يبرز كثيرا في كتاباتها المتعددة الجوانب، كما تشهد على ذلك المقتطفات* التي اخترت ها من كتاباتها التي تدلّ على تعددية اهتماماتها وقوة شخصيتها وهي صفات أصبح العالم الحديث في حاجة كبيرة لها لا سيما عالمنا العربي الذي يمر بوضع شديد الحرج اليوم.

إن هذه الصفحات القليلة إنما هي للإشادة بجهودها وللشهادة أن الطبيعة قد صاغتها من طينة خاصة لا تملك الطبيعة منها الكثير. إنها بالفعل امرأة من زماننا ولا شك أن رؤياهها وما قدمته من إنجاز ستفتح الطريق لأجيال عربية متعاقبة في المستقبل.

لم نثبت هذه المقطفات هنا بل وضعناها مع مقتطفات أخرى من آراء سلمى وذلك تحاشيا للتكرار.

أستاذة الآداب الإنجليزية جامعة زايد، دبي

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة