Culture Magazine Thursday  02/02/2012 G Issue 361
عدد خاص
الخميس 10 ,ربيع الاول 1433   العدد  361
 
علامة فارقة في جبهة الثقافة العربية
نوري الجراح

 

شهادة

سلمى الخضراء الجيوسي علامة فارقة في جبهة الثقافة العربية المعاصرة. شاعرة وناقدة ومؤرخة أدبية لا يشق لها غبار، وهي مترجمة صاحبة مشروع هائل لنقل الثقافة العربية إلى اللغة الإنكليزية. عبر مؤسستيها «بروتا» و»رابطة الشرق والغرب» اللتين أسستهما في الولايات المتحدة، وكرستهما من هناك إطارا جادا وحيويا غير مسبوق لترجمة بعض كنوز الأدب العربي إلى الإنكليزية، والتعريف بأساطين الثقافة العربية وايقوناتها القديمة والحديثة.

وقد أنجزت سلمى عبر هذا الإطار عددا كبيرا من المؤلفات العربية بالإنكليزية، وضعت، وللمرة الأولى في لغة شيكسبير، لبنات للأدب والحضارة العربيين. فتحْتَ مشروع بروتا أنجزت،إلى جانب ما يعادل من ثلاثين كتابا ذات مؤلف واحد من مجموعات شعرية وقصصية ومن روايات وكتابات فكرية، أنجزت أكثر من عشرأنطولوجيات كبيرة شاملة مرموقة للقصة والشعر والرواية والمسرح والفولكلور، تغطي زمنيا أدبا وشعراً يعود إلى ما قبل ظهور الإسلام، ويمتد حتى نهاية القرن العشرين. وجغرافيا تشمل كامل رقعة الناطقين بالعربية انطلاقا من العواصم الكبرى والفاعلة في الثقافة العربية: القاهرة، دمشق، بغداد، بيروت، صنعاء، مكة، القدس، وغيرها.

أما تحت مشروع رابطة الشرق والغرب فقد أنجزت أولا كتابها الشهير في مجلدين «تراث إسبانيا المسلمة» الذي حررته وكتب لها فيه 42 كاتبا عالميا مختصا بالأندلسيات. ورغم ضخامته وارتفاع سعره أُعيد طبعه مرارا آخرها في شهر آب/أغسطس من هذا العام أي 2010. وقد ترجم إلى العربية ونشره مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت في مجلدين كبيرين.

ثم كتابها الكبير في مجلدين أيضا عن المدينة في العالم الإسلامي الذي حررته بالاشتراك مع ثلاثة من المختصين العالميين بالمدينة الإسلامية أحدهم الأستاذ الرفيع الذكر أندريه ريموند صاحب الكتاب الشهير عن القاهرة. وقد نال كتاب المدينة في العالم الإسلامي جائزة تشويسْ الأكاديمية بين أكثر من ألفي وخمسمئة كتاب في سنة 2009 . ثم حررت سلمى كتابا شاملا عن تطور القصة العربية الكلاسيكية كتب لها فيه عدد مرموق من أشهر الدارسين الأكاديميين للقصص العربي القديم من عرب ومستعربين كما حررت مجموعة مترجمة للقصة العربية الكلاسيكية تصدر قريبا جدا أي خريف 2010 في نيويورك. وهذان الكتابان يقدمان البرهان على تفوق العرب في القص منذ قرون طويلة وهو تفوق غطّى عليه تركيزهم على الشعر حتى أنهم لم يدركوا مدى تفوقهـم وأسبقيتهم في مجال القصص وأنه ليس احتكارا أو أسبقية غربية.

وهي تعمل الآن على ثلاثة كتب حضارية جديدة: الأول عن الحضارة العربية الإسلامية في صقلية؛ والثاني عن الحضارة العربية الإسلامية في البرتغال؛ والثالث عن الحديقة الإسلامية ويساعدها في هذا عدد من كبار المختصين العالميين. كما أن مخططها الكبير سيشمل مجموعة مترجمة واسعة من المنتخبات الإبداعية النثرية خارج المجال القصصي.

هذه الإشارات لا تضيف جديدا إلى صورة سلمى الخضراء الجيوسي، كمؤرخة حصيفة ومترجمة لامعة، ومحررة للكتب الحضارية المهمة، لاسيما في الأوساط الأدبية والعلمية الغربية، حيث تتمتع سلمى، انطلاقا من اميركا وبريطانيا إلى كل مكان يدرس فيه تاريخ العرب وحياتهم الثقافية بمكانة لا ينازعها عليها أحد، وحيث يقدر اسمها ويوزن غاليا.

اكتب عن سلمى، لا لأحيط بمنجزها، فهو أكبر من أن تحيط به كلمة موجزة كهذه، ولكن لأعبر عن مدى التقدير الذي أكنه لها وقد تابعت عملها رفيع المستوى وكفاحها الثقافي الخلاق على مدار نحو ثلاثين سنة تكاد تكون عمر صداقتنا، منذ أن التقيت بها في أواخر صيف 1986 وكانت يومها تضع اللمسات الأخيرة على أنطولوجيا الشعر العربي الحديث. ماتزال ذكرى لقائي الأول بها، في بيت أسامة ابنها في لندن، نضرة، كأنها حدثت أمس، مؤثرة فكريا وشعوريا على نحو استثنائي، ففي ذلك اليوم وجدتني في حضرة سيدة فريدة تملك من سرعة البديهة وقوة الشخصية، وسعة الأفق، وحضور الذاكرة، وخصوبة الخيال، وذكاء الملاحظة، وقوة الموضوعية، ما يجعل من اللقاء بها حدثا لعمرك فارق، ودرسا لا ينسى.

فهي لديها من الفرادة في الخصال ما ظل يجعلها متألقة في المجالس واللقاءات التي جمعتنا، فضلا عما خصتني به شخصيا خلال رحلة صداقتنا الرائعة من الأنس وصدق المودة والتعاطف والحنان، وذلك الكرم الروحي النادر.

لقد تركت أفكارها الثاقبة حول تاريخ الشعر العربي، وظهور الحداثة في الشعر، والتحولات العاصفة التي عرفها التطور الشعري، أبلغ الأثر فيَّ. وجدتني بإزاء ناقدة مثقفة تجاوزت جيلها الأدبي بمراحل، وطورت في الوقت نفسه وعيا استثنائيا بالميكانزمات والمحركات التي حكمت تطور الشعر. ولم يمض وقت طويل على هذا اللقاء حتى ظهر كتابها النقدي الكبير: الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث وقد ترجمه إلى الإنكليزية الناقد عبد الواحد لؤلؤة.

إن هذا الكتاب، من دون أدنى مبالغة، أهم كتاب يؤرخ للشعر العربي الحديث، لما تميز به عمل سلمى النقدي في هذا الكتاب من موضوعية وأمانة وسعة في الثقافة، وعمق في النظرة وجرأة في استنطاق العلاقات بين النصوص والظواهر والأصوات الشعرية، واستكشاف مكنوناتها وأسرارها والقوانين التي خلقت الظواهر، وقادت الشعر إلى المنعطفات الكبرى للتغير.

وعلى رغم الطابع الخاص والأصيل لتفكيرها النقدي وشخصيتها الفكرية، إلا أن تلك الخصلة الذهبية المتمثلة في موضوعية الناقدة والمؤرخة، (والتي ظلت تعوز جيل النقاد والمؤرخين الأدبيين العرب المعاصرين لها) كانت ماثلة بقوة في كل سطر وجملة وصفحة من عملها النقدي البارع... إلى جانب ذلك الحدس النقدي المرهف، والرؤية المعرفية الثاقبة للقوانين والمحركات الداخلية للشعر والأدب، ومن ثم القدرة على استكناه الجودة حيث هي كامنة في العمل الأدبي، وعلى متابعة عوارض التغير وعلاماته في الظواهر الشعرية، والمعرفة الحدسية للشعر والأدب. فضلا عن البراعة في ابتكار عدد من أهم المصطلحات التي يستعملها النقد اليوم، مثل مصطلح «الإرهاق الجمالي» الذي نحتته للتدليل على عنصر وحالة لابد أن يسبقا كل تغيير كبير فيي الشعر الأدب والفن. .. إلخ...

واليوم، ورغم الاحتفاء الذي يستقبل به عمل سلمى عادة، أجزم أن هذا الكتاب الذي يدرس الشعر العربي من عصر سامي البارودي حتى عصر محمد الماغوط وغيره من شعراء الستينيات والسبعينيات دراسة شاملة، لم يقرأ كما ينبغي من قبل الشعراء والنقاد العرب.. وإلا لكان السجال حول الشعر وظواهره ارتقى درجات عما هو عليه اليوم.. بعد حوالي عشر سنوات على صدور الكتاب.

مثل ما قلته في عمل سلمى النقدي يمكن قوله في عملها كشاعرة محدثة وصاحبة صوت مفرد في الشعر العربي في الخمسينات والستينات، وقصائدها التي افصحت عن جمالية مبتكرة، في ديوانها الشعري المفرد «العودة إلى النبع الحالم» تعتبر لبنة جمالية وتعبيرية وعتبة مبكرة نمر منها إلى الشعر العربي الصافي، الشعر الجمالي.

والواقع أن في هذا الديوان قصائد بعضها يعبر عن تجربة متفردة لم تمر في شعرنا ولا تمر كثيرا في أي شعر ولكنها حقيقية وخاصة ومتميزة تبرز شيئا جديدا غير مطروق في الشعر العربي. أتكلم هنا بشكل خاص عن قصيدتها «شودان» التي تتحدث عن ذلك الانبهار أمام الجمال الرفيع، الخالي من أي تحسس جسدي، لكونها تركز على الجمال كرؤيا تشفي الإنسان من ضعفه وغمّه وتعطيه دفقة من الفرح والانفراج.

وسلمى الرائية تعتبر أن الشعر يتغير ولكنه يظل في مكانته أي أن شاعرا كبيرا اليوم لا يلغي من سبقه على الإطلاق ولن يلغيه من سيجيء بعده. فما أفقر الحياة إذا جاء من يلغيها وكأنها لم تكن! هذا الإلغاء، كما تراه سلمى، يجيء في عصر أولع بالأزياء لا بالشعر الحقيقي. فلا يرى إلا زيا واحدا وكأن تاريخ الشعر قبله ملغىً وكأن جماله لم يعش يوما في اللغة نفسها والمكان نفسه! كأن الشعر يتدرج في الجودة طيلة الوقت فأين نهاية هذا التدرج؟ وماذا سيحصل للشعر المعتبر جيدا اليوم إن كان هو حلقة صعود يجيء بعده ما يلغيه أو يخفف من قيمته الفنية؟ لا شيء يمكن أن يلغي ما كان جيدا حتى في «الجاهلية» ما قبل الإسلام.

ينطبق ما سلف من وصف وتمييز لشخصية سلمى الشعرية والنقدية على عملها كمترجمة تتميز بعمق النظرة، وبالقدرة الفائقة على الاختيار والاكتشاف، ناهيك عن براعتها ككاتبة مقدمات وعتبات لأعمال قدمتها بالإنكليزية عبدت بواسطتها الطريق أمام الأدب العربي إلى قراء هذه اللغة بصورة غير مسبوقة. ويكفيني هنا أن أشير إلى عملين ضخمين لها، من بين عشرات الأعمال العظيمة التي انجزتها بالإنكليزية، الأول أنجزته تحت مشروع «رابطة الشرق والغرب» للدراسات الحضارية؛ والثاني أنجزته تحت مشروع بروتا للترجمة من العربية وهما مجلد تراث اسبانيا المسلمة الذي يعتبر اليوم من الكتب الأكثر مبيعا في الأكاديمية العالمية (وقد صدرت له طبعة جديدة صيف 2010)... ومجلد: انطولوجيا السرد القصصي العربي الذي صدر في نيويورك هذا الأسبوع أي في خريف 2010؛ ونتحدث هنا عن مجلدين كبيرين لم يسبق لهما مثيل في المكتبة العالمية.

لا أريد أن أستطرد بالطريقة نفسها لئلا يبدو كلامي تقريظا. وهو ما لا ينقص، (ولا يعوز أيضا) سلمى الخضراء الجيوسي الرائدة في حقل هيمن عليه الرجال، وفي بيئة غربية لم تكن سهلة أبدا، فصورة العرب كانت قد جرت «شرقنتها» أولا، ثم «أبلستها» لاحقا دراسات غربية مغرضة، ولكن فعالة في الوعي الأوروبي، في وقت غاب فيه الجهد العربي أو كاد لتغيير هذه الصورة في فضاء عالمي يكثر فيه الاعداء، ويشتد الصراع، ويخشى فيه العقلاء من هيمنة الفكر المعادي على نجاح المشروع. ولكن سلمى كانت تؤمن إيمانا معاكسا فتقول: «العالم ليس عدونا. نحن أعداء أنفسنا» وكان دأب سلمى وإصرارها، وإيمانها العميق بثقافتها، ونكرانها لذاتها مقابل الانتصار لثقافة أمتها، وقضايا هذه الامة، وعلى رأسها قضية فلسطين، جعل كل شيء يهون أمام هدفها النبيل. وكسبنا، نحن العرب، وكسب العالم، من وراء هذا الإصرار وتلك الخطة البارعة أعمالاً عربية بالإنكليزية شعرية وأدبية وفكرية، كلاسيكية ومعاصرة، شكلت مكتبة أساسية معتبرة لكل من يريد أن ييمم مستقبلاً شطر الأدب والثقافة العربيين، ومدخلاً عالميا جذابا وراقيا إلى هذا الأدب.

إن تجربة سلمى الناجحة في أرض الآخر، تفيدنا أن هناك أكثر من غرب واحد، وإذا كان هناك في الغرب من وضع في طريقها الأشواك، فهناك غرب آخر إنساني رحب ومرحب، ولا ادل على ذلك من أنها صارت اسما علما في العالم، وهو ما جعلها، تحصل حتى الآن على 16 جائزة تكريمية عدد منها جاءت من العرب. وهي، بلا شك، تعبير عن النجاح الباهر الذي حققه مشروعها على مدار أكثر من ربع قرن.

ما سلف يحضني على أن أقول: تحية لك يا سلمى، أيتها الرائدة، أنت أيها الجبين المهاجر قسرا، يا ابنة فلسطين والعرب، ما بنيته للثقافة العربية لن يستطيع احد ان يغض الطرف عنه، لا الآن ولا في المستقبل، إنه يملأ العين. رغم الغبش الذي يغطي مرات على الصورة فلا تبدو واضحة كفاية بالنسبة إلى العرب أنفسهم الذين لا يقدرون أحيانا قيمة العمل وصعوبته في أرض الآخر وفي فضائه الثقافي وهو ما يضعف انتباه الثقافة العربية إلى ذاتها، وإلى مواطن القوة في الابداع العربي الذي استطاع مع سلمى وبين يديها الأمينتين أن يوضع باستحقاق تحت شمس العصر وفي فضاء القراءة على قدم المساواة مع أكبر الإبداعات العالمية التي انتجتها القريحة الإنسانية وهو من أهمها بامتياز.

مرة قالت لي سلمى باعتزاز: إنني أجد الناشر الكبير لكتبي قبل أن ابدأ الكتاب. فمجرد ذكر الكتاب الجديد الذي أنوي القيام به يجيئني الجواب: نحن نريده!

والآن أتساءل: ترى هل أدرك العرب قيمة هذا، قيمة أن يلقى الكتاب الأدبي أو الحضاري الذي تعده سلمى بالإنكليزية قبولا سريعا عند كبريات دور النشر في الغرب؟ بل هل أدرك العرب حتى الآن أهمية نقل الثقافة العربية قديمها وحديثها إلى العالم؟

أخيرا، فإن ما بنيته يا سلمى سيظل أقوى من هذه اللحظة العربية الغافلة، ومن نكران الغرب الاستعماري للعرب والمسلمين ودورهم كصناع حضارة وشركاء حضاريين، وأقوى، بالضرورة، من هشاشة الزمن.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة