Culture Magazine Thursday  02/02/2012 G Issue 361
عدد خاص
الخميس 10 ,ربيع الاول 1433   العدد  361
 
..كانت بياننا الشعري الأول
زكريا محمد

 

لم تكن سلمى الخضراء الجيوسي ناقدة تعيش في عالم الكتب، بل كانت دوما ناقدة (تحرث الأرض) أولا، وقبل كل شيء. الحياة الأدبية على الأرض شغلها الشاغل. وهنا كانت نقطة قوتها: الحراثة في الأرض بيديها العاريتين. كانت تدرك أن نبتات الحياة الجديدة في الشعر، وفي الأدب عامة، يمكن أن تداس بالأقدام وأن تتحطم ما لم يقم احد باكتشافها وحمايتها. لذا لم يذهب إليها ممثلو الكتابة الشابة، كما جرت العادة، بل كانت هي من ذهبت إليهم. طاردتهم في كل المدن، وطاردت منشوراتهم وقصائدهم حصل هذا معي ومع جيلي الذي بدأ يكتب بعد منصف السبعينات من القرن الماضي. كان جزء كبير منا قد دفعته الحياة إلى بيروت: زكريا محمد، غسان زقطان، وليد الخازندار، أمجد ناصر. وكان غيرنا يقيم في مدن أخرى.

كانت الموضة وقتها موضة السلاح والأبطال ذوي العضلات في الشعر. أما نحن فكنا نكتب شعرا بسيطا بلا سلاح ولا بطولة. نكتب شعرا عن النملة والزهرة وعن الظل والنور، وعن الحصان والحمار. ولم يكن أحد ليعتقد أن ما نكتبه يمكن أن يكون شعرا. إذ وقتها كان على الشاعر أن يكون على راجمة الصواريخ كي يكون شاعرا.

بالطبع، كنا متورطين في السياسة مثل غيرنا، لكن نقطة وعينا المركزية أننا لم نكن نريد للسياسة أن تبالغ في استغلال الشعر. شعرنا أن السياسة استغلت الشعر حتى كادت أن تحطمه كما تتحطم مزهرية رقيقة. لكن هذا لم يكن يتوافق مع المزاج السائد. وأذكر أن أحد الشعراء المهمين الذين كانوا يمثلون المزاج العام قال لي أنه فكر في دعوتي مرة لمهرجان شعر فلسطيني فقرأ قصائدي فلم يجد فيها ما يدل على أنني فلسطيني، فاستنكف عن دعوتي.

وفي هذا المناخ كنا نستحي حتى أن نعرض شعرنا. لكننا لم نكن لنتراجع أمام ما يتطلبه هذا المناخ حين نكتب قصائدنا. كنا نسبح في مياه أخرى. وكان الشعر سيدنا الأول، ثم يأتي بعد ذلك أي شيء. ثم اقتربنا من نهاية السبعينات وبداية الثمانينات.

وهنا ظهرت سلمى الخضراء الجيوسي. كانت تعمل على كتابها الكبير: أنطولوجيا الأدب الفلسطيني. وكانت من أجله تطوف الأرض بحثا عن الشعر، وعن نبتاته الجديدة. وعثرت علينا. لم نرسل لها، هي من أرسلت لنا. لم نرحل إليها، هي من رحل إلينا. كان في يدها إبريق ماء وكانت تطوف لتسقي النبتات الجديدة.

وقفت، وقالت: هذا هو الشعر. هنا تجري ثورة شعرية بلا بيانات شعرية ولا ضجيج. تجري مثل نهر سري صامت تحت الأرض. وبجرأة لا مثيل لها وضعت ما يكتبه هذا الجيل الصامت، ضعيف العضلات، في مواجهة الشعر السائد، وفي مواجهة ملوكه الأقوياء. لقد قررت أن تخوض حربنا، حرب النبتات الجديدة، وأن تكتب هي بياننا الأول، وكتبته حقا. كان كتابها المذكور، بشكل ما، هو بياننا الشعري الأول.

لم يعجب الكثيرين ما قالته سلمى الجيوسي. لكنها هي من انتصرت في نهاية الأمر. فلم تمض إلا سنوات قليلة حتى هيمن المزاج الجديد في الشعر، وختم الشعر الفلسطيني بطابعه. صار مزاج شعر الستينات والسبعينات مجرد ذكرى.

كان ذوق سلمى الجيوسي نقطة تفوقها الثانية. كان ذوقها أرقى وأشد حساسية من الناس الذين كانوا أصغر منها بعشرين عاما أو أكثر. ثمة نقاد في العالم العربي يكتبون كتبا ضخمة عن الشعر، لكنهم لا يستطيعون التفريق بين قصيدة جيدة وقصيدة بائسة. أما سلمى الجيوسي فتملك ذائقة شعرية لا مثيل لها. وهذه الذائقة هي التي انتصرت.

ويمكن لي أن أقول أننا كجيب شعري من خلائق سلمى الجيوسي. صحيح أننا نحن من كنا نزرع نبتات الشعر الجديدة، لكن من أزاح بيديه الشوك والعشب كي ترى هذه النبتات الشمس إنما هو سلمى الجيوسي. كل الشعر الجيد الذي يكتب في فلسطين الآن هو، بشكل ما، ثمرة ذوق سلمى الجيوسي. ثمرة جرأتها، وثمرة يديها اللتين جرحتهما الأشواك.

بالطبع، أنا أتحدث هنا عن تجربتي وزملائي الفلسطينيين. لكن جهد سلمى الجيوسي كان أوسع من ذلك. كانت تطوف الأرض العربية، وليس أرض فلسطين فقط، من أجل نبتات الشعر الطرية الجديدة. فقد كانت تحارب من اجل أن تقنع العالم أنه يجب عليهم أن يسمعوا ما تقوله هذه الأمة. وكانت تجمع الأصوات من كل صوب، وتحملها، ثم تضرب على باب العالم بيديها وتقول لهم: اسمعوا، اسمعوا ما لدينا..

وقد أسمعت.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة