Culture Magazine Thursday  02/02/2012 G Issue 361
عدد خاص
الخميس 10 ,ربيع الاول 1433   العدد  361
 
النبع الحالم
ديمة الشكر

 

تقاطعتْ بدايات سلمى الخضراء الجيوسي مع بدايات شعراء الحداثة، فكتبتْ الشّعر (ديوان العودة من النبع الحالم) وترجمتْ عن الإنكليزية الجزأين الأوّل والثاني من رباعيات الإسكندرية للورانس داريل، وإنجازات الشعر الأميركي في نصف قرن للويز بوغان، وغيرها، مثلما فعل أغلبهم. بيد أنها سرعان ما افترقت عنهم، إذ لعلّها أدركتْ - وهي الذكية الحصيفة - معنى الحداثة وكنهها، باعتبارها عملاً فرديّاً في الدرجة الأولى، لكنها تتعثر وتفقد صدقيّتها آن لا يجد الفرد المبدع صدىً عميقاً لعمله، يحيله إلى سؤال رئيسٍ: ماذا فعلتَ تحديداً، وما الفائدة منه؟ فالإجابة عن سؤالٍ مماثلٍ تبيّن إلى أي حدّ يكون المبدع واعياً لوجوده ضمن زمان ومكان محدّدين، وعارفاً بمشكلات واقعه، وحالماً بحلّها من خلال قدرته على المساهمة بشيء مفيد، ف «أمّا الزبد فيذهب جُفاءً، وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض»، كذا نستطيع قياس إنجاز المبدعين.

ولو أردنا النظر في أثر وعي سلمى لمعنى الحداثة، لجاء الجواب من شقين: الأوّل أنها ضحّت بما لا يضحّى به حتّى تنجز ما يجب إنجازه، على ما تقول في إحدى مقابلاتها الصحفية. فقد عزفتْ سلمى عن نشر ديوانها الثاني (عرّاف الرياح) وضحّت بإبداعها الشعري نتيجةً لنكسة حزيران الشهيرة. والثاني أنها لم تحتملْ استهتار الغرب بالثقافة العربية الناجِم من مجموعة عوامل على رأسها الجهل والمكر والخبث في تصويرها، فأخذتْ على عاتقها مهمةً كبرى في نقل الثقافة العربية تراثاً وحداثةً إلى الغرب، عبر طائفة من الكتب العلميّة ذات المستوى المهني الرفيع. وكان أولى تلك الكتب وأشهرها كتاب (الاتجاهات والحركات في الشّعر العَربي الحديث)، وهو في أصله أطروحتها في الدكتوراة (معهد الدراسات الشرقية والإفريقية بلندن)، حيث تؤّرخ فيه للشّعر العَربي الحديث منذ القرن التاسع عشر حتّى عام 1970. ولا شكّ في أن اختيارها لهذا الموضوع وطريقتها المبهرة في معالجته يُفصحان عن اجتماع موهبتها الشعريّة مع معرفتها الواسعة بالتراث الشّعري العَربي مبنىً (تقنية) ومعنىً (مضمون)، مثلما يفصحان عن حداثتها ووعيها العميق لمعنى الحداثة وفعلها في إحداث تغيير إيجابيّ. ولهذا كلّه، رفع كتابُها السّقف عالياً، وأضحى «المرجع» الأساس لكلّ باحثٍ في الشّعر العَربي الحديث. وإن كان من ثمة تأريخ للنقد، فسيؤّرخ به، وسيقال: قبل كتاب سلمى أو بعده. والظن أنّه سيمضى وقتٌ طويلٌ قبل نقرأ كتاباً نقدياً في مستواه.

لكن صاحبته لم تقفْ عنده ولم تكتفِ به، بل استمرّت في إثراء المكتبة بكتبٍ من المستوى الرفيع ذاته: موسوعة الأدب الفلسطيني المعاصر، أنطولوجيا الشعر العربي الحديث، أنطولوجيا المسرح العربي الحديث، أنطولوجيا القصّة العربية الحديثة، حقوق الإنسان في الفكر العربي، القدس في التاريخ القديم، وغيرها الكثير. ومن آخر إصداراتها مختارات من قصص جحا، والمدينة في العالم الإسلامي.

ولعلّ كتابها الشهير الثاني (الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس)، يتبوأ مرتبةً تضاهي الأوّل، فقد أضحى من أنجح الكتب العلميّة مبيعاً، وليس هذا بالإنجاز القليل، بل لعلّه من الإنجازات الكبرى التي تُبطن قياساً صعباً بعيد المنال. ويعود نجاح الكتاب إلى سلمى ومعها طائفة من الباحثين الغربيين والعرب. فقد أضحى الكتاب مرجعاً رئيساً في بابه (الدراسات الأندلسيّة) على الرغم من وفرة هذه الأخيرة، بيد أنّ تمّيزه يكمن أولاً في اختصاره لما توصل إليه البحث العلمي في دراسة الحضارة الأندلسية من جوانبها المتعدّدة ؛ الفنّ والعمارة، التاريخ الاجتماعي، التاريخ الاقتصادي، الفسلفة، الدراسات الدينية، العلم وتكنولوجيا الزراعة، التاريخ السياسي، الأقليّات، المدن الأندلسية، اللغة والشّعر والأدب، وأخيراً الموسيقى. وخصّت سلمى الكتاب - فضلاً عن تحريره- بدراستين مهمّتين: «الشّعر الأندلسي: العصر الذهبي» و»شعر الطبيعة في الأندلس وظهور ابن خفاجة». وتظهرُ الدراستان منهج سلمى الخاصّ في النقد، فهي التي تبدأ دراساتها ببسط الإشكاليات المتناقضة «أندلسياً» إن صحّ التعبير، فهي أولاً القارئة الممتازة لما صدر عن المستعربين المختصين بالدراسات الأندلسية، وهي ثانياً الناقدة القادرة على سبر أثر أفكارهم في ما يخص التلاقح الثقافي بين المسلمين وسكان شبه الجزيرة الإيبيرية. وقبل هذا هي المكينة في معرفة التراث العَربي الأندلسي، كذا تقدر أن تنقد علميّاً أفكار هنري بيريس، وليفي بروفنسال وغيرهم من المستعربين، الذين علّلوا الازدواجية اللغوية (استعمال العربية الفصحى من جهة واللغة الرومانثية والمحكية في خرجات الأزجال من جهة أخرى)، بصورةٍ تغمط الإنجاز العَربي حقّه، واقعين تحت أوهام فرضيّات تعوزها المعرفة الصحيحة بالآخر ولغته وموقعه في الدرجة الأولى. ومن غير سلمى بقادرٍ على دحض فرضيّات مماثلة؟ وعلى تمهيد الدخول إلى معرفة خصائص الشّعر الأندلسي بهذه الطريقة، المكثّفة لكن السلسة، التي تُطل على آخر دراسات الغربيين، وتجلو ضياء التراث العَربي، لتحيطَ بموضوعها من وجوهه قبل البدء بالتعرّف على أهمّ الشعراء ؛ يحيى الغزال، ابن عبد ربّه، يوسف بن هارون الرمادي، ابن هانئ، ابن درّاج القسطلي، ابن شُهيد الأندلسي، ابن زيدون، بن عمّار، المعتمد بن عبّاد. ثمّ تخصّ ابن خفاجة بدراسة وافية تجمع المتعة إلى المعرفة.

في كلّ مرة، ينتهي القارئ من قراءة أحد كتبها، يشوبه الارتباك جرّاء شعور غريب يحدوه سؤالٌ ملتبس لا يحنّ إلى الماضي بقدر ما يكتشفه علميّاً: أنحن نحن؟ كما كتبتنا سلمى؟ لماذا تأخرنا إذن في الكتابة عن إرثنا بطريقة سلمى الحداثية المبهرة؟ وبقدر ما تعلو الإنجازات عبر كتبها، بقدر ما يبدو التقصير والتأخر عالياً.

وفي كلّ مرة، يترصد القارئ ما سوف تكتب عنه سلمى، يشوبه الترقّب اللذيذ، منتظِراً زواج المتعة بالمعرفة. والموعد الجديد المنتظر كتابها عن صقلية الإسلامية، نقطة التقاطع المتعدّدة: فبين ضفتي المتوسط تطفو المراكب نحو أرض الكنانة وبلاد الشام، فيرتبك أهلها جرّاء هوّية الغازي الجديد: أمِنَ الروم هو أم من الإفرنج؟ أقَدِمَ للتجارة أمّ للاحتلال؟. وبين الشِّمال والجنوب يحمل البريد تارةً أجوبةَ الفيلسوف ابن سبعين (المسائل الصقليّة) وأجوبة القاضي جمال الدين ابن واصل (المسائل الأنبرورية) إلى فريدريك الثاني. ويحملُ تارةً أخرى مراسلاته مع السلطان الكامل الأيوبي التي انتهتْ بفاجعة تسليم القدس. وقبل فريدريك الثاني وبلاطه الشهير فيها، كان لروجيه الثاني- الذي يُعرف برجار في العربية- صِلات ثقافية مع العرب، ومن أشهر ما نتج منها (كتاب رُجار) أو (نزهة المشتاق إلى ارتياد الآفاق) للجغرافي الشريف الإدريسي. وفي صقلية ترتبكُ الجهات فغربها شرقٌ أندلسيّ الهوى، يُطيّر منه ابن حمديس حمائم الشوق والحنين: «ذَكرتُ صِقِلِّيَّةً والأسى- يُهَيِّجُ لِلنَّفسِ تِذكَارَها- فَإِن كُنتُ أُخرِجتُ مِن جَنَّةٍ -فَإِنِّي أُحَدِّثُ أَخبَارَها»، ولعلّه طيّر مع قصائده لقاء القافية العربية بالشعر الرومانثي، أبي التروبادور وجدّ السونيت. ولعلّنا لن نجيدَ إلا انتظار قلم سلمى التي تعمل على هذا الكتاب، مثلما لن نجيدَ إلا انتظار مذكراتها الشخصيّة لنعرف أكثر كيف نكون أو كيف تكون المرأة العربية مثلها حداثيةً وحرّةً بعقلها ومبدعةً بنقدها وأفكارها، فهي هي سلمى لا غيرها هي المثل وإليها القياس.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة