ينتمي كتاب «فواصل في مآزق الثقافة العربية» الصادر عن دار «بيسان» في بيروت إلى نهج الكتابة النقدية - الاجتماعية الجامعة، فهو يضيء بجرأة ومعرفة على قضايا بنيوية ومفصلية في ثقافتنا وموروثنا الاجتماعي «بمسلّماته اليقينية» وتربيتنا وسلوكنا، ومواقفنا الملتبسة أو الرافضة «للآخر» كأفراد وكجماعات. كذلك فهو يتعرّض للمسكوت عنه في العديد من الأفكار والآراء المتحجّرة التي سَكَنَها الإهمال، إما عن قصد وإمّا عن جهل، فأولدت في حياتنا وحياة من سَبَقنا لامبالاة مزمنة، زَرَعَتْ في النفوس نوعاً من الجمود الصَنَمي في زمن ضجَّ وما يزال بالحركة والتحوّلات. وبفعل سلطة هذا الجمود غابت الرؤى وتاه حسّ الإدراك والوعي والاستشراف.
يقول الكاتب في المقدمة: «هذا الكتاب هو محاولة لجمع أبرز الإشكالات الثقافية...».
والإشكالات التي زاد عددها - في الكتاب - على الخمسين، فَتَحت للدكتور إبراهيم نوافذ واسعة لمضاعفة هذا العدد، وربما أكثر، وهذا ما سيتطلّب منه العمل على إصدار أجزاء عدة متتالية، «تُسقط الأقنعة في مجتمعاتنا عمّن ينحرون التاريخ ويخرّبون الجغرافيا...».
وكأنّي به يسعى إلى التنبيه بعد أن وَصَلنا - بشيء من الركود - إلى العيش «مُدَجَّنين» في متاهة من «الإشكالات» التي طاوَلَت وجودنا على المستويات كافة، فشكَّلَتْ - أينما وُجدت - وبنسبٍ متفاوتة، مآزق مصيرية تحوّلت بدورها إلى ثوابت تأسَّست عليها بمرور الزمن ثقافة ملتبسة ارتكزت بمجملها على الفعل «الماضي» من دون وعي ومناقشة.
ينطلق الدكتور إبراهيم التركي في مقارباته للمآزق من ثقافة واسعة وانفتاح إيجابي كبير على «الجديد»، وذلك من خلال منهجية يحكمها الرصد الرصين الموثّق والمقارنة الدامغة والموقف الواضح الجريء، الذي يحمل في ثناياه لوعةً وأسى تجاه ما هو قائم على «زَغَل» وغير مؤهَّل للتحوِّل وللتغيُّر. ولقد جهد بعين لاقطة، وسعى بمتابعة دؤوبة إلى انتقاء «المآزق» وإبراز دورها من خلال مفاعيل تداعياتها، والانتقال بسلاسة من مأزق لآخر، مبيّناً النواقص والسلبيات وكل التداعيات المدمّرة، وكل ذلك بلغة متينة شفيفة تُظهر المعاني والدلالات «النائمة» حتى وَصَلَت إلى اشتقاقات الكلمات وتبادل مواقع حروفها، لكأن اللغة عند الدكتور إبراهيم - بحدّ ذاتها - تحمل أيضاً بعض أعباء «مآزقنا». ومنذ البداية نقرأ في «مأزق الاعتراف»:... إن قراءة الآخر وفهمه وتفهُّم دوافعه - أياً تكن - بهدوء وموضوعية سيتيح ثراءً معرفياً وتعدّدية حضارية، عاشتها الأمة زمن الانتصار، ولن تعشى بها في أزمنة الانكسار...».
ولقد شكّل هذا الطرح أهم الأسس التي ارتكز عليها هذا الكتاب. ثم يتابع فيقول:... لقد انتقلنا من مجتمع متجانس إلى مجتمعات مفتوحة، وسافرنا من بلد يؤمن بالإسلام إلى بلاد لا تعترف به، وعادت تلك الشبهات بوصفها علامات لنا او معالم في ديننا، واستطاعت كوَّة من الضوء - التي لمحنا منها الآخر في مرحلة مبكّرة - أن تتحوّل إشعاعاً «يضيء الدروب المعتمة».
واستطاع الدكتور إبراهيم أن ينسج تواصلاً حقيقياً وصريحاً مع القارئ، الذي رأى فيه: الباحث والصحفي والراوية والمحلّل والمتابع المواكب لما يجري حوله وحول العالم.
وفي «مأزق الأبويّة» يقول: المرأة تتفرّج على ما يقرِّر بشأنها أو تحاكم من أجله، وهي نموذج إلى ما يصنعه الصمت في الحراك الاجتماعي والثقافي ودوره في خلق أنماط جديدة من «الرقباء» يتناسلون ليخفتوا الصوت القادر على التغيير...» هكذا، إلى أن يقول عن اجتثاث الفكر المختلف بأساليب القمع والتخويف: «كيف؟ ومن غَرَسَ الكره في نفوس هؤلاء حتى باتوا يرون الرأي الآخر خطراً يجب قمعه؟ وفي «مأزق العولمة» يقول: كان الأجدى ألا نتحاور إذا كانت الغاية أن نتماثل...». وفي «مأزق الرمز»: إن الفكرة المجرّدة تحلِّق في فضاء التجريب والاختبار ثم تجد لها رعاة ودعاة وتلتحم بالنسيج المجتمعي وتصبح جزءاً من خلاياه وأوردته...».
هذه السلسلة الطويلة من المآزق، التي عَصَفَتْ بالحياة الثقافية العربية وأرخَت بانعكاساتها على الحياة الاجتماعية، استطاعت أن تطلق سيلاً من الأفكار والفتاوى المتخلّفة التي تحكمها الهشاشة والركاكة والرأي الواحد الأحادي المقفل. وإذا كان - كما يقال - بأن الشيطان يكمن في التفاصيل، فإننا بدورنا نقول: وهل نملك ونهتم بغير التفاصيل؟
لقد اختزل الدكتور إبراهيم - بسخرية - واقعاً كدنا ندمن على طعم مرارته، وذلك حين قال:... إنقرض الشِعْر فنما الشعير!» وبما أن الشيء بالشيء يُذكر وعلى سبيل السخرية أيضاً، فقد كتبتُ مرّة: عندما قلّ عدد «الحمير» في المدن، كَثُرَ فيها عدد «التيوس»!!
الخلل يكاد يكون في كل مكان، وكذلك عدم التوازن «الداخلي» لدى الفرد ولدى «الجماعات».
هذه المآزق المفصلية التي هزَّتْ وتهزّ الوجدان وأقْلَقَتْ وتقلق الروح، لا زالت تستولد مآزق جديدة تنذر بانحسار حضاري واصطفافات تضعنا خارج العصر والمعاصرة. ففي «مأزق السكون» يذكر: في اقتناع الفلاسفة أن لا شيء يظلّ ثابتاً، فالساكن واقف حتى يجد ما يحرّكه، والمتحرّك يحتاج إلى من يوقفه، ويخلصون إلى أن لا شيء يستطيع تغيير نفسه بنفسه..
كذلك فهو يذكر إشارة بعض الباحثين إلى «أن الفتاوى التي تصدر في هذا الزمن... تعادل ما صدر من فتاوى طيلة التاريخ الإسلامي..».
ثم يذهب إلى التاريخ في «مأزق التزييف» فيقول: «تهتز الثقة بالتاريخ متى أُدخل في أنفاق الأهواء، ولن نختلف حول أن أولى هزائمنا الوحدوية كانت بانقسام الأمة قبل نهاية الخلافة الراشدة من دون أن يستطيع عام الجماعة «41 هـ» أن يحقق معناه، فزاد الصدع بين الأطياف وما يزال».
الى أن يقول في «مأزق الخرافة»: يُرتهن المجتمع فينزوي الطبيب والعالم والمفكر، ليسود قارئو الكفّ ومحلّلو الأبراج ومفسّرو الأحلام، ويبدو عالم السحر والجن والفتوى الخفيّة والبارابسيكولوجي هو المستأثر بالاهتمام.
وهكذا تتعدّد وتتغاير المآزق وكأنها كامنة في كل شيء، فمن «مأزق التاريخ» إلى «مأزق الخلاف» مروراً بـ»مأزق الشكل» و»مأزق النصّ» و»مأزق التنظير» الذي يستشهد فيه بقول «الاسكندر المقدوني» لمعلّمه «أرسطو»، عندما شرح على الملأ بعض محاضراته: «لم تُحسن صنعاً، فقد كنتُ أفضِّل أن تبقى دروسك سراً نَغْلبُ بها الأمم. فأجابه أرسطو: لكنّي أفضّل قوة العلم، لا قوة السلاح». وفي «مأزق التحريض» يروي الكاتب عن الرحالة الإسباني «دومينغو باديّا» عندما زار الشرق في مستهلّ القرن التاسع عشر، وحجَّ وهو على دينه المسيحي إلى بيت الله الحرام منتحلاً اسماً عربياً «علي باي العباسي». ففي روايته «مسيحي في مكّة» طرح هذه الرحّالة في ثناياها استفهاماً صعباً حين شاهد بين المسلمين من يقتل ويسلب ويخرِّب، فتساءل: كيف يمكن أن يكون الإيمان قاسياً إلى هذا الحدّ؟».
ويصل الدكتور إبراهيم في استكشاف المآزق إلى أن يلامس قضايا ساخنة تحمل العديد من بذور التفجير المدمِّر. وتحت عنوان «مأزق التشدُّد» تتجلّى وتَظهر بعض الرؤى التنويرية، مقابل العديد من الأفكار الضيّقة المغلقة. وهنا يتصدَّر كتاب «الوصايا» للإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين الذي جاء فيه:... التأكيد على الشيعة الاندماج في الأقوام والمجتمعات والأوطان وعدم تمييز أنفسهم بأي تمييز خاص، وألا يخترعوا مشروعاً خاصاً بهم لأن المبدأ الأساسي في الإسلام هو وحدة الأمة. وقال: أكرّر وصيّتي الملحّة بأن يتجنّب الشيعة في كل وطن من أوطانهم شعار حقوق الطائفة والمطالبة بحصص في النظام... أما المظالم، فلقد طالب أن تدار وتساس بحكمة.
وقال: لا أوافق ولا أرجِّح أن تقوم حركات احتجاجية شيعية محضّة... ولخَّص الإمام الشيخ رؤيته فقال:... لا توجد أقليات مسلمة ولا أقليات مسيحية، بل توجد أكثريتان: أكثرية عربية تضمّ مسلمين وغير مسلمين، وأكثرية مسلمة تضمّ عرباً وغير عرب، والشيعة مندمجون فيها، فهم تارةً جزء من الأكثرية العربية، وهم تارة جزء من الأكثرية الإسلامية، وكل شيء دون هذا هو مشروع فتنة وفخ لاستخدام الشيعة في مصالح عربية أجنبية مخالفة لمصالحهم شيعة وعرباً ومسلمين.
«فواصل في مآزق الثقافة العربية» كتاب نقدي، اتهامي، تحريضي جامع، يحفِّز على الحراك وعلى كشف الذات «الجمعيّة»، وعلى الاعتراف واستكشاف الحقائق وقول الحق واتباع منطق الصواب بهدف الخروج من المآزق المزمنة، والمساهمة الفعلية في بناء المستقبل، والإجابة المنطقية المُقْنِعة على كلّ مستجدات العصر المفتوح على شتى الاحتمالات. ويستشهد الدكتور إبراهيم بالكاتب «مصطفى نبيل» في كتابه «سِيَر ذاتية عربية»، حيث يقول: إذا كان من حق المثقف أن يخطئ، فليس من حقه أن يدافع عن آراء متناقضة في وقت واحد، أو في أوقات متقاربة..».
«فواصل في مآزق الحياة الثقافية» أظهر بأننا نعيش في «متاهة» متشابكة من المآزق التي غزاها الصدأ وأصبح كلّ مأزق منها مؤهّلاً لأن يكون موضوعاً قائماً بذاته لدراسة نقدية عميقة.
-
* بيروت