Culture Magazine Thursday  30/06/2011 G Issue 348
فضاءات
الخميس 28 ,رجب 1432   العدد  348
 
ماذا لو اقتدى به أعضاءُ رابطة الأدب الإسلامي؟
د. حسن الهويمل: حفيد النخلة والساقية
خالد بن أحمد الرفاعي
-

وُلِدَ في زمن صعبٍ للغاية، الصوتُ فيه واحدٌ، وكذا اللونُ والطعمُ والرائحةُ، لم يكن الفكرُ المجتمعيُّ إبّان مولده مفتوحاً ليركض، ولم تكن السياقاتُ مفتوحة.. فقضى صباه محصوراً بين نخلةٍ وساقية، مأخوذاً بروعة العالم الذي يرقص وراءَ أسوارٍ عنيدة.

نشأ في مرحلة عارية من الحِراك، يعيش أهلها في الزمن ولا يعيشون به أو من خلاله، معتمدين - في ذلك - على فكرة الزهد ولحظيّة الدنيا، حتى تشابهوا في كلِّ شيء، تشابهاً يلحظه أقلّ الناس معرفةً وإدراكاً.

أقلقته فكرة التشابه في صِباه، وأرّقته رتابة الإيقاع، فلم يكن يثير انتباهه إلا من خرقهما، وخرج عنهما أو عليهما.. من هنا كان إعجابه بالعلامة (محمد الناصر العبودي)؛ لأنه كان مختلفاً عن مجايليه في كلِّ شيء، وكان الفتى يرصد هذا الاختلاف - رغم صغر سنّه - دبرَ كلِّ صلاة؛ بحكم علاقة الجوار التي كانت تربط بينهما في (بريدة).

قرّر مبكّراً أنْ يكونَ مختلفاً؛ فارتبط بالكتاب ارتباطَ الظلّ بالشاخص، وتفاعل مع مقروئه في ظلّ عجزه عن التفاعل مع من يخالط.. وحين تقدّمتْ به الحالُ، وسجّل خطوتين إلى الأمام، أنشأ مكتبةً صغيرةً تحت (بيت الدرج)، وأخذ يقرأ فيها دون قيد أو شرط.

في مكتبته تلك جلس (الحنبليُّ) إلى جوار (ابن حزم)، و(محمود شاكر) قبالة (طه حسين)، و(العقّاد) بين ثلة من خصومه.. ثم كبرت المكتبة بعد أمّة، فكبر معها الاختلاف، وتكاثر المختلفون.

كان على ثقة كبيرة بنفسه؛ فدخل الساحة الثقافية قبل أنْ يتمَّ عقده الثاني، ولم يكن دخوله هادئاً، وإنما كان مجللاً بالضجيج والصخب، ولأنه تشرّب فكرة الاختلاف مبكّراً، فقد أسّس دراسته النقدية الأولى على الاختلاف، وانتهى فيها إلى ما لا يقبل - عادةً - من مثله، فرفض (الأنصاري) نشر الدراسة في (المنهل)، ورفض (هو) التفاوضَ معه، فولى وجهه شطرَ (أبو مدين).

تصالح مع نفسه وهو بعدُ في العتبات؛ فأعطاها حقّ التعبير، وأعطى الآخرين الحقَّ عينه، واحتمل رؤيةً واضحةً كالشمس، كره بسببها اللفّ والنشر، وأنف من الدوران في حلقة مفرغة.. وتعالى بها على الركض في مضمار قصير، ومنافسات (مبرمجة).

خشي من الوقوع في أَسْر التشابه ورتابة الإيقاع؛ فانخرط في قراءة المختلفين أكثر من قراءة الأشباه.. لذلك يتجلى دوماً خارج إطار التقدير والتصوّر، ويحفل - حدّ الغرابة - بالمفارقات.. ويكفي - مثالاً على ذلك - أنه يهاجم الحداثيين بلغتهم، وينافح عن التراث بكتبٍ منقولة من (الإنكليزية) و(الفرنسية)..

هذه المفارقات دفعت الكثيرين إلى اتهامه بالتناقض، والتصابي، والخوف، وفوضوية الانتماء.. لكنها في حقيقة الأمر دليلٌ على الحوارية التي كانت تتحرّك بين جنبيه منذ كان محصوراً بين النخلة والساقية.

في منتصف الثمانينيات علا صوتُ الحداثة في بلادنا؛ فتصدى لقطع لسانها علماء الشريعة، والدعاة، والمفكرون، والمثقفون، والأدباء الإسلاميون، وكانوا يشكّلون - مجتمعين - حزباً منظّماً، له مستنده ومساقاته.. كان صاحبُنا واحداً من ذلك الجمع، لكنه لم يكن فيهم..؛ فقد فضّل الاستعدادَ لخصومه على الاستعداء عليهم، واختار حسم المعركة معهم بالحجة لا بقوّة السلطة، فكان أنْ جاورهم على المنصات المحلية والعربية، وشاركهم جدولة الملتقيات والمنتديات، وصارعهم في حلبة الصحافة، وكان شعاره في هذه السياقات: الحرف بالحرف، والكلمة بالكلمة، والجروح قصاص..

لم يتقوقع على نفسه كما صنع كثيرون، ولم يعتزل الساحة مثلما فعلوا، ولم يؤلب عليهم العلماء والمتعالمين، وإنما واجههم على مرأى من الناس ومسمع.

وحين أنشأ الحداثيون ملتقى نقدياً في (جدة)، حزم حقيبته وسافر إليهم، وجلس إلى جوار أسماء عربية كبيرة كـ(عصفور)، و(المقالح)، و(أبوديب)، ولم يكن في ذلك الملتقى من خصوم الحداثة إلا هو، وما معه في الحقيبة غير ورقة علمية وريشتين ودواة.

ضاق به بعضُ المشاركين، واتسعت له صدورُ بعضٍ آخرين، ومنهم من تساءل: «ما الذي أتى بك؟»، ومنهم من قدّر قيمة ورقته وجهده، حتى لقد قال الغذامي «أختلف معه بنسبة 99% لكنني أحترمه بنسبة 100%».

كان بإمكانه الجلوسُ إلى أتباعه، والدورانُ على أشباهه ونظائره، وكان قادراً على ممارسة سلطته في قاعات الدرس بصدّ طلابه عن قراءة خصومه، لكنه لم يفعل شيئاً من ذلك، فقد كان ينصح طلابه بالقراءة للجميع، وحاول إقناعَ الجادين منهم بأهمية الوصول إلى رأي شخصي فيما يقرؤونه، دون مؤثّرات خارجية.

كان قاسياً على خصومه، وكانوا قساة عليه، واقترفوا في حقّه، واقترف في حقهم، ثم عادوا عن كثيرٍ مما قالوه، وعاد، وقدّروا له ما كان يقدِّر لهم من وضوح الرؤية، والجرأة، والتصالح مع الذات.

انتقد كثيراً كتابَ (الخطيئة والتكفير)، لكنه كان يدعو طلبته إلى الإفادة منه، ورغم السجال العنيف الذي دار بينه وبين (الغذامي) كان يشيد به من حين إلى حين، بل كان يُسند إليه فضلَ الانتعاش الذي شهده الأدب المحلي إبداعاً ونقداً.

اتهمه أحد الإعلاميين - قبل خمسة عشر عاماً - بتصفية الحسابات مع خصومه، والبحث عن الأضواء، فأجابه بقوله: «إن الذين يتوهمون تصفية الحساب، والسعي للأضواء، صغار في تفكيرهم، وفي ثقافتهم، وفي تجاربهم، وعاجزون عن الحوار..؛ لذلك لم أتهم خصومي بأنهم يصفون حساباً معي، وحتى لو حملوا هذا الهمّ الدنيء، فليس مهماً عندي، فأنا صاحب قضية، ولست صاحبَ عداوات وتصفيات.. كل الذي أرجوه ألا تقزّموا حركتنا النقدية والفكرية إلى الحدّ الذي تصبح فيه تافهة بدائية، تدور حول تصفية الحسابات، والسعي إلى الأضواء. دعونا نتجادل.. وأبعدوا كلمات التآمر، والخوف، والتصفية، والأضواء، والتجهيل؛ لكي نكون جميعاً في مستوى قضايانا، واتركوا الإلحاح على مثل هذه التوافه». (عكاظ: 20-6-1996م).

رَأَسَ نادي القصيم الأدبي مدة تربو على خمسة وعشرين عاماً، لم يمارس فيها إقصاءَ خصومه - كما يزعم بعضهم -، بل وجَّه إلى كثير منهم دعوات إلى المشاركة أو الحضور، وأعرف أنه دعا (الغذامي)، و(الزهراني)، و(السريحي)، وآخرين.. وفتح البابَ لأنشطة تخالف توجهه النقدي، وأجاز طباعة كتب نقدية وإبداعية تُنمى إلى المشروع الحداثي.

أصاب كثيراً وأخطأ، واتفق معه المتابعون واختلفوا، لكنَّ المنصفَ لا يستطيع أنْ ينكر أنه كان رجلاً شجاعاً، ينازل خصومه بنفسه، ويستعدُّ لهم، ولا يستعدي عليهم، ويفرّق في تعاطيه بين الرجل وفكره، ثم بين فكره والمعتقد.

إنه حسن بن فهد الهويمل، رئيس المكتب الإقليمي لرابطة الأدب الإسلامي العالمية في الرياض، وأحد الداعين إلى الأدب الإسلامي، والمنافحين عنه، لكنه لم يكن لحظة أسيراً لهذه الرابطة، ولا موظفاً فيها، ولا حكواتياً على بابها، ولم يكن يوماً متجهّماً باسمها، وكان يقول: «أنا ضدّ الانتماء إلى حزب، أو طائفة، أو تنظيم، وأرفض أن يسيّجَ الإنسانُ نفسَه ضمن دائرة؛ ولذلك فأنا عضو في مجلس أمناء رابطة الأدب الإسلامي، ورئيس لأحد مكاتبها، لكنني لستُ مستغلاً منها بالشكل الذي يتصوّره بعضهم».

إنني أهدي - في هذه المقالة - شخصَ الهويمل وشخصيته، وصورته وسيرته، إلى رئيس رابطة الأدب الإسلامي والجامدين من أعضائها؛ علَّهم يتعلمون منه كيف يتعاطون مع المشهد الثقافي؛ فلا يتعالون على حوارٍ مع خصم، ولا يضيقون ذرعاً بانتقاد عابر، ولا يبتئسون من رأي مخالف - كما فعل بعضهم مع مقالتي السابقة -.

خاتمة: أتوجه بالشكر الصادق والتقدير الكبير للقراء الكرام، ولمن اختلفت معهم واختلفوا معي، ومن قبل ومن بعد للمجلة الثقافية، وللمثقف الجميل د. إبراهيم التركي، سائلاً المولى أنْ يمحو عنه الداء، ويثبتَ له الأجر والعافية. وكل عام أنتم بخير.

-

Alrafai16@hotmail.com * الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة