كلنا عرف الشاعر العربي المصري هذا من إنتاجه المنشور وصوته المتميز في إذاعة القاهرة، ولا سيما في برنامجه «لغتنا الجميلة» ويعد هذا الشاعر من أشهر الشعراء الذين أنجبتهم مصر بعد عصر العمالقة (عصر شوقي والبارودي وحافظ).. كما أنه يمتلك صوتاً قوياً وفصيحاً مؤثراً ويستطيع إلقاء وتلاوة الشعر أكثر من أيّ شاعر معاصر على ما أعلم.
قابلته لأول مرة عندما جاء إلى جدة قبل سنوات بدعوة من النادي الأدبي لإقامة أمسية شعرية، وقد اكتظت بل ازدحمت صالة فندق العطاس، حيث أقيمت الأمسية بحشد زاد على الثلاثمائة من الحضور، وهذا حضور متميز لسماع الشعر في آخر القرن العشرين.
وقد قدّم لما تلاه من شعر بمقدمة نثرية رائعة تألق فيها النثر على الشعر لأول مرة، ولم يخطئ في الإملاء أو يلحن في النحو، وكان ما قاله درراً تتساقط من فم تعوّد على الشعر والفصاحة والبيان!.
وقد كاد أن يفسد علينا متعة تلك الليلة الجميلة شاب حدث تخرج بالدكتوراه في تحقيق مخطوطة قديمة ويرى نفسه في مستوى وقدر فاروق شوشة أو أنه حاول نقده ليبرز على الطريقة المعروفة في تشبث الأقزام بأذيال العمالقة، أو على مذهب «خالف تعرف».. وماذا ينقد؟! بعد أن تلا الشاعر الكبير شعراً رائعاً.. وكان إلقاؤه لا يقل روعة.
لقد كان ذلك الشاب سخيفاً حقاً في كلامه سيما وأن الشاعر كان ضيفاً على النادي والبلاد، ولم يرد عليه الشاعر ربما احتقاراً لما قاله.
وصوت شوشة شاعري وهذه هبة من الله، والغريب أنه ولد في قرية تسمى «الشعراء» أي أنه ولد وفي فمه قصيدة شعر.
وفي القاهرة قابلت الشاعر الكبير في مكتبه بمبنى الإذاعة والتلفزيون واستقبلني بحفاوة على الرغم مما رأيته من مشاغل كثيرة تحت يده.. والتحدث بالهاتف، وبعد المقابلة القصيرة خرجت وأنا حزين على هذا الشاعر الموهوب الذي يعيش في هذا الجو المشحون بالعمل والتشويش، وأعجب كيف يجد الجو الوادع.. والمناخ الملائم لكل ما يبدعه من روائع الشعر التي جعلته في مصاف شعراء مصر في العصر الحديث، وكيف ينتج هذه البرامج الناجحة التي تحتاج إلى بحث واستقصاء؟!.
وقد قدمت له مسودة ديواني «قصائد مطوية» لمراجعته، وليس لتقديمه كما ذكرت له، إذ إنني لا أؤمن بالمقدمات أو التقديم الذي يشتمل عادة على المدح والتقريض والمجاملة، وإنما أردت أن أستأنس برأي شاعر كبير أكنّ له الحب والإعجاب، وظل الديوان لديه قرابة سنة كاملة، وقد ذهبت إليه لأخذه فوجدته على ما هو عليه من مشاغل لا أظنها ستنتهي ووجدته قد كتب صفحتين بخط يده فيها بعض النقد وبعض التقريض والمدح، وتدل على أنه لم يقرأ الديوان قراءة متأنية -بسبب مشاغله ولا مبالاته - ومع ذلك فقد أوردت فقرات منها عند طبع الديوان اعتزازاً مني برأي شاعرنا الكبير وتذكاراً للقاءاتنا العابرة.
وفي أثناء وجودي في مصر بين أعوام 1990-1993م حضرت له أمسية شعرية في هيئة الكتاب في شهر رمضان تألق فيها كعادته، وبعد انتهاء الأمسية سلمت عليه فعرفني والتقط لنا المصور صورة مشتركة ونحن نخرج من الصالة جنباً إلى جنب، وقد وضعتها في إطار في مكتبتي الخاصة، وهي من الصور التي أحبها وأعتز بها.. ونبدو في الصورتين -شوشة وأنا- كما لو كنا شقيقين.. أو كصديقين لم يحسن القدر أو الظروف اجتماعهما؟!.
إنّ الظروف، ومشاغل الشاعر التي شهدتها عن كثب عندما زرته في مكتبه بالإذاعة ربما حالت بيني وبين توثيق العلاقة مع هذا الشاعر الموهوب الذي ترى فيه كل صفات الشاعر وهدوئه ورزانته، وتواضعه، ولطفه، إنه مثالي في شخصيته وتعامله معك، وعليه سيماء روحانية شاعرية تسيطر على وجهه وملامحه وحركاته وسكناته وصوته! وفي التلفزيون يسيطر على محدثيه ومحاوريه بلباقته وسعة ثقافته وهدوئه وتواضعه.
إنه شاعر بحق في شعره وفي شخصيته ولم أر له مثيلاً ممن عرفت من الشعراء!.
جدة