تناول الفلاسفة مصطلح التناقض فأشار أرسطو إلى أنّه عدم الاتساق في التفكير بمعنى: «أنّ الشيء لا يمكن أن يكون موجوداً أو غير موجود في الوقت ذاته»، كما أنّ هيجل عبّر عنه بأنه «بقدر ما يحوي شيء من الأشياء تناقضاً يكون هذا الشيء قادراً على الحركة وعلى الفاعلية». هذه المقولات جاءت لتحرك العقل نحو التفكير والإبداع، نحو العمل والتأثير لتحقيق التطور المطلوب نظرياً وعملياً. وقد كانت نظريات الفلاسفة دافعاً للتأمل والتحليل لإنتاج المعرفة والارتقاء بالعقل إلى مراتب عليا من التفكير؛ فأصبحت النظرية تناقض سابقتها لتثبت نتيجة أخرى صحيحة دفعت بالعلوم على مر التاريخ إلى التطوّر والتقدّم حتى سادت أمم أمماً، إلا نحن فالتناقض لا يزيدنا إلا تراجعاً!
فيبدو أنّنا أصبحنا في دائرة من التناقضات تحيط بنا حدّ الاختناق، ندور دورة كاملة حول محورها كل يوم، فمن تصريح لمسؤول أو خبر لمحرر أو شعارات لكاتب تمتلئ بها المساحات، فإن أنت فتشت عنها في الواقع لم تجد لها تطبيقًا يشفع لصاحبها بالبقاء في حيز الفعل!!
«من الصعب أن تعمل في وسط مليء بالتناقضات» عبارة نقف عندها كثيراً نتأملها ونفصل الحديث حولها ونستدعي لها الأمثلة ونضع لها الحلول حتى نخلص في النهاية إلى أنّ التناقض ألاّ تكون متناقضاً! أن تقول ما لا تفعل، أن تنظّر ولست معنياً بالتطبيق، أن يعلو صوت المتفيهقين فيصفق المنافقون، أن تصعد على جثث الصامتين، أن ترتدي قناعاً يتلوّن لكل مناسبة، أن تردّد:
(لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم)
مخالفاً قول المهلهل: «إنّ قولي مطابق لفعالي»! أن تنادي بحقوق الآخرين وتقصي المخالفين لرأيك.. مشاهد تتكرر أمامك يومياً ولم تعد قاصرة على فئة دون أخرى؛ فالصغير والكبير، والجاهل والمتعلم، الرئيس والمرؤوس، بل العلماء والمثقفون، وهؤلاء خطرهم أشد من السابقين؛ لأنّ تأثيرهم تتسع دائرته؛ لتشمل فئات كثيرة من المجتمع، وهذا ما نعانيه اليوم في خطابنا الثقافي الذي شكلته تيارات مختلفة، تناقضت فيما بينها ولم تتكامل، في حين لم يكن تكاملها مطلباً أساسياً فالتناقض أدعى لإعمال الفكر وتحليل قضايا الاختلاف للوصول إلى المعرفة التي ترتضيها الفطرة السليمة، ولكن تزييف الوعي لم يترك خياراً أمام العقل، حيث عمل الخطاب المتشدد على تعطيل الفكر وشحن العاطفة، واستغلال أسلوب الترهيب لتحفيز الشعور بالخوف الذي سهّل مهمة السيطرة على تفكير الفرد ليأتي طائعاً مستسلماً تاركاً مهمة التفكير للعالِم المثال الذي لا يجوز له انتقاده أو نقض آرائه، وبعد أن تقدّم العالم من حولنا علت أصوات المثقفين تحاول اللّحاق بالركب قبل أن تفوتنا المسيرة، فانتفض الحارس وحمل السلاح ليشنها حرباً على كل صوت يغرّد خارج السرب، ورغم محاولات جادة من بعض المثقفين المخلصين لإصلاح ما يمكن إصلاحه إلا أنّ أثرهم كان محدوداً، ولم تصل أصواتهم المناضلة إلا للفكر الذي استيقظ من قبضة التنويم المغناطيسي السائد، واليوم وبعد أن بدأت ثمار جهود الرواد تظهر وحان وقت قطافها أصاب أبناءها الوهن، وتراجعوا عن إكمال مشوارهم ليس من قلة حيلة بل انشغالاً بالأنا وتغييباً للذات الجمعية، فسادت لغة المصالح وظهرت أكاذيب الكتّاب، وشعارات طالبي الوجاهة والشهرة، وذاع صيت أدعياء الثقافة، واختلطت أصوات الصادقين بضجيج الزائفين، وزهدت العقول المستنيرة في أضواء تهافت عليها المتناقضون، فتارة تراه مع التنوير ومرات ضده، وتارة يعتلي المنابر ليتصدر خطابه عناوين الصحف اليومية فتظنّه بطلاً يرفع شعار المنقذ فما يلبث أن يناقض فعلُه قولَه، فكيف يمكن لخطاب كهذا أن يتسيد المشهد ويؤثر في الآخرين بعد أن فقد أهم سمة للتأثير وهي المصداقية، عندما يكتشف الأفراد أنّ النخبة - كما جرت تسميتهم - ينظّرون لأمور يمارسون عكسها تسقط قيمة ما ينادون به أو له، وليس هناك دليل على التخبط الذي يعيشه الوسط الثقافي اليوم أكثر من أزمة التناقض الذي يجعلهم يشحذون أقلامهم ضد بعضهم في مشهد تغلفه المصالح الشخصية وتشحنه هشاشة فكرية تحمل أصحابها على هدم ما بناه السابقون، ولك أن تقرأ كلّ يوم الصفحات الثقافية التي لن تزيدك تفاؤلاً بالخروج من الأزمة قريباً، فبالأمس القريب امتلأت الصفحات بمطالبة المثقفين بكثير - لم نعد نتذكر أكثره - واليوم تقرأ عزوفهم عنه بعد إقراره! لا تتعجب فتلك دائرة التناقضات الخاصة بنا وحدنا التي لا تشبه فلسفة التناقض عند الآخرين، ولمَ لا نضيفها إلى الخصوصية التي نتميز بها عن غيرنا لندخل بها موسوعة جينيس بتحقيق الرقم القياسي للتناقضات!!
الرياض