Culture Magazine Thursday  24/11/2011 G Issue 353
فضاءات
الخميس 28 ,ذو الحجة 1432   العدد  353
 
ذكرياتي.. معهم
الأستاذ عبدالفتاح أبو مدين
د. حمد الزيد

يعدّ (أبا وديع) من العصاميين والكتّاب الناجحين، ومن الصحفيين النشيطين من بلادنا، جاء صغيراً من ليبيا ونشأ وتعلم قليلاً في المدينة المنورة وقرأ كثيراً وقد رأيت في بيته بجدة مكتبة عامرة فهو من الذين اعتمدوا على أنفسهم في التثقيف الذاتي كما في الحياة.

وقد سمعت عنه كثيراً قبل أن أقابله وأعايشة بعد ذلك في جدة ونتزامل في النادي الأدبي الثقافي قرابة ست سنوات وكان رئيسنا بل هو الذي عرض علّي عضوية مجلس الإدارة.

وقد نشرت عام 1381هـ - 1962م في جريدته الأسبوعية «الرائد» أول قصيدة لي بعنوان «بنزرت» وهي مدينة تونسية على الساحل دارت فيها آخر معركة خاضها التوانسه مع الاستعمار الفرنسي، وكانت من محاولاتي الأولى في الشعر ولا تتعدى بضعة أبيات ولكنه نشرها تشجيعاً منه لشداة الأدب مثلي.

وفي جريدته «الرائد» ومن قبلها «الأضواء» خرجت أقلام شابة كثيرة مثل: إبراهيم الزيد وراشد الحمدان ومحمد أبو سليم وعثمان مليباري ومحمد سعيد العوضي ومحمد أمين رويحي والنقيدان وعبدالله مناع وغيرهم كثير. فكانت حقاً مدرسة صحفية وحيدة لتلك الكوكبة من الشباب الذين تكرّسوا فيما بعد كتاباً لامعين في الصحافة المحلية وكانوا ينشرون في «الرائد» وهم طلاب في الكليات.

وقد قابلته للمرة الأولى في مقر النادي الأدبي بجدة عام 1395هـ عندما كان الأستاذ: محمد حسن عواد رئيسه، وكان لقاء سريعاً ثم زارني مع العواد في نادي الطائف الأدبي في نفس العام زيارة قصيرة، ولم أكوّن خلال اللقاءين أي انطباع مؤثر عن الرجل الهادئ والأنيق جداً.

وكان اسم أبو مدين يملأ الصحافة السعودية بمقالاته التي تعالج مواضيع آنية واجتماعية وتختص بحاجات المواطنين وظل اسمه يملأ الساحة بحضور دائم منذ عام 1375هـ تقريباً وحتى الآن أي قرابة خمسين عاماً من عمره المديد.

وعندما تصفح كتابه «ومرت الأيام» تأخذ صورة نفسية وحياتية كاملة عن الرجل الذي عركته الصحافة وعركها وكان له محبون وأعداء وحساد شأن كل من يتصدى لمثل ما تصدى له.

ولدى أبو مدين موهبة استثنائية في الكتابة الصحافية وقلمه سيّال ونَفَسُه طويل وقد حفر اسمه بصبره الكبير ومثابرته الدائمة على الكتابة كما أن النادي الأدبي الثقافي بجدة لم يقدر له النجاح إلاّ لأن أبو مدين رئيسه منذ موت العواد الذي كان النادي في عهده جامداً.

لقد كرس الرجل الكثير من وقته وجهده للنادي حتى أصبح من أنجح الأندية في البلاد، وقد لمست ذلك بنفسي عندما انضممت عضواً في مجلس إدارة النادي بين أعوام 1402هـ - 1408هـ أثناء وجودي في جدة فقد كان لأبي مدين شخصية أبوية مسيطرة وكان أكبرنا سناً وأشهرنا، في مجال الكتابة والصحافة.. وكان يحترم قناعات الآخرين، ويجامل، ويكرّ ويفرّ عند اللزوم ولكنه في النهاية.. رجل القرار كما كان بعيد الغورُ والقرار..

وقد ساعده على النجاح في النادي وجود أمين ممتاز وأديب رائع الصفات هو: محمد علي قدس، فقد كان القدس من خيرة من عرفت من الأدباء الذين يجمعون بين أدب النفس وأدب الدرس والأدب والإخلاص للعمل في النادي ولولاه لما قدر للنادي كل هذا النجاح والسمعة التي أحرزها.. خصوصاً وأن النادي على مدى تاريخه قد امتحن بتواجد بعض الانتهازيين «والشللية» في مجلس إدارته وفي عضويته! وكان يفتقر للمقر المناسب والموظفين والإمكانيات، قبل انتقاله لمقره الحالي في الكورنيش، وكان الريس (أبا وديع) بارعاً في مسك العصا من الوسط!

كان أبو مدين ذكياً فضم لمجلس إدارة النادي تيارات متعددة وشخصيات متباينة مما أثرى مسيرة النادي وجعله متميزاً حقاً بين الأندية الأخرى، كما استقطب محاضرين وشعراء من الأقطار العربية الأخرى ولا سيما من مصر والمغرب فدعى أسماء كبيرة جداً كزكي نجيب محمود وفاروق شوشة وعز الدين إسماعيل وفاروق جويدة ومحمد العروسي المطوي ونذير العظمة والبيّاتي وغيرهم من الأسماء الأدبية اللامعة وطبع لهم بعض مؤلفاتهم.

كما عُقدت ندوات ومحاضرات النادي في فندق من الدرجة الأولى ويعقب ذلك عشاء دسماً فأصبح الأدب في عهد أبو مدين يطعم لحماً وأرزاً وخبزاً! وشجّع ذلك العامة والطلاب على الحضور للاستمتاع بالمكان وطيب الطعام! كما أفرد صالة للنساء بدائرة تلفزيونية مغلقة وكنّ يشتركن في النقاش الدائر ويرين الرجال ولا يرونهن!!

كما نجح أبو مدين بسبب إقامته الطويلة في جدة وعلاقاته الشخصية مع الشخصيات الرسمية وغير الرسمية في إيجاد مقر للنادي على الكورنيش وبنائه بالتبرعات وقد أصبح النادي أحد المعالم الثقافية في مدينة جدة بسبب جهد هذا الرجل الخارق، وكان النادي في شقة متواضعة على طريق المدينة عندما كنت في عضويته، لأنني استقلت من مجلسه في أواسط عام 1408هـ بعد تركي للتعليم.

كما سنّ أبو مدين سنة حميدة وهي تكريم النادي للأدباء الأحياء وقد اعتدنا في البلاد العربية على تكريم الأموات فقط! وقد كرّمني -مشكوراً - مع المكرّمين، مع أني كنت غائباً في هجرتي الثانية إلى لبنان!

توثقت علاقتي الشخصية بأبي وديع طيلة وجودي في جدة أي قرابة ست سنوات وافترقنا ويا للأسف بلا وداع، فقد حدث لي حادث عارض عام 1408هـ بعد تركي للنادي وعتبت عليه وعلى غيره في نفسي لأنهم لم يسألوا أو لم يعرفوا عن حالي! ثم ذهبت للطائف ومنها إلى مصر ولبنان لعدة سنوات، ولكن بطاقة التهنئة بالعيد ظلت تصلني منه على عنواني بالطائف لعدة سنوات حتى بعد تغيّر العنوان! كما كتب صفحة كاملة في إحدى المجلات السعودية مثنياً علّي وعلى كتابي (كاتب وكتاب) الذي استعرضت فيه أكثر من مائة كتاب ومن ضمنها كتابه «في معترك الحياة» الذي يضم الكثير من مقالاته الصحفية التي نشرت له، وكان أول كتاب أصدره هو كتاب نقدي اسمه «أمواج وأثباج» وقد كتبت عن كتابه (في معترك الحياة) ما يلي: «الأستاذ عبدالفتاح أبو مدين أديب وكاتب اجتماعي قدير، صاحب قلم جريء مدرب، فهو يسهم منذ أكثر من ربع قرن في إثراء الصحافة المحلية بقلمه الجيد، ومتابعاته الجادة، وينطلق في كتاباته من تحسسه المخلص للمصلحة العامة، والشجاعة الأدبية والذاتية التي يجب أن يتحلى بها الأديب والكاتب.. إلخ».

وما زلت أذكر الأستاذ عبدالفتاح أبو مدين بالخير وأكن له الحب والمودة، وألوم الظروف والأحداث والأشخاص التي تجمعت كلها ضد إرادتنا في التواصل، وهي منذ الأزل وإلى الأبد تفرق بين الأحبة والأصدقاء.

جدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة