Culture Magazine Thursday  24/03/2011 G Issue 336
الملف
الخميس 19 ,ربيع الثاني 1432   العدد  336
 
عنيزة في مهرجان الثقافة
عبدالعزيز بن محي الدين خوجة

في مستهل كلمتي أود أن أهنئكم جميعاً بعودة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز (حفظه الله) من رحلته العلاجية التي تكللت والحمد لله بالنجاح ومنَّ الله عليه بالصحة والعافية وأهنىء خادم الحرمين الشريفين بهذا الشعب الوفي، وأهنئ الشعب والوطن بمليكه وقائده وبالقرارات التاريخية والأوامر الملكية التي صدرت أخيرا، وكانت كلها في مصلحة الوطن والمواطن، فكان يوم أمس الجمعة يوماً مشهوداً وجمعة كانت جمعة الوفاء وستكون في تاريخ المملكة العربية السعودية.

كما أشكر لكم هذه الدعوة الكريمة التي أتحتموها لي، أن أكون معكم، في مهرجان عنيزة الثقافي في موسمه الثالث، حيث أثبت هذا المهرجان حضوره القوي في الحركة الثقافية والأدبية في بلادنا، وهي فرصة رائعة لي لأجدد العهد بمثقفي هذه المدينة العريقة التي تعبق جنباتها بالإبداع والتراث والثقافة.

الإخوة والأخوات

حينما تلقيت هذه الدعوة الكريمة لزيارة عنيزة في مهرجانها الثقافي هذا، سرعان ما تهادى إلى وجداني معنى من الشعر وظللت ملياً مسكوناً بسحره ومسه، أتتبع في اسم «عنيزة» طبقات امتزج فيها الشعر بالتاريخ بالذاكرة، وأخذت بيدي إلى مطارحَ أَمَّها امرؤ القيس وعنترة وبشر بن أبي خازم وجرير والفرزدق، وأخذت أقلب الطرف في اسمها العذب»عنيزة» المصوغ بصيغة التدليل، فعرفت حينها معنى الدلال وطعمه وهل يسع شاعراً أن يفوت على نفسه أثراً للدلِّ والهيام، وطفقت أستفتي الجغرافيا، أسائلها عن»عنيزة»، فإذا بي مرة أخرى مع عشيرتي من الشعراء وإذا بي أقرأ، لدى ياقوت الحموي أبياتاً عذبة للشاعر جرير:

أمسى خليطك قد أجدَّ فراقا

هاج الحزين وهيج الأشواقا

هل تبصران ظعائناً بعنيزة

أم هل تقول لنا بهن لحاقا ؟

إن الفؤاد مع الذين تحملوا

لم ينظروا بعنيزة الإشراقا

وأنا - أيها الإخوة والأخوات- لست جغرافياً لأتتبع المنازل والديار، فللشعر جغرافيته الموصولة بروح المكان وعبقريته، والشاعر يرنو إلى المكان بروحه، ويكاد يحس بمغناطيس الكلمات، وها إنني أشعر بحنين إلى «عنيزة» التي شامها ذات قصيدة: الفرزدق، وجرير، ومالك بن الريب، وعبرت طبقات الزمن ذرات رملها العاشق، فبدت تميمة في شعر أبنائها الرائعين، أسمع هسهسة الشعر عند محمد الفهد العيسى:

كم أمنيات كنت أنسجها - أنا

لك يا «عنيزة» من دمي وولائي

لي في بنيك الغر مأمل عاشق

وبهم رأيتك سلوتي وعزائي

فغداً أراك وقد تمنطق بالسنا

خصر لقدك تاه في البيداء

وعلى الرمال العسجدية ألتقي

بالحب.. حبك أنت في سودائي

وأشم زهر الخزامى في كلمات أحمد الصالح»مسافر»:

الحسن علم أهلها لغة الهوى

فجميعهم في حبها شعراءُ

وتأملوا، بالله، معي قوله:

أحبابنا.. الأوطان فاتحة الهوى

وختامه عشاقها الشهداءُ

أما عبدالرحمن السماعيل فقد ترقرقت الكلمات بين يديه حبيبة أليفة، وهو يتحدث إلى حبيبته «عنيزة» ويستدني أماكنها القديمة:

قفي أحدثْك عن عمري الذي انجرحا

بين الطلول، وعن حلمي الذي انسفحا

هذي الطلول لها نبض بأوردتي

عطر الطفولة من أفيائها نفحا

أصحاب السمو، الإخوة والأخوات

كنت قبل وقت قريب في جمهورية تركمانستان لافتتاح الأيام الثقافية السعودية هناك، مع نخبة من أهل الثقافة والفن وكان معنا الأستاذ-حمد القاضي وهو من أبناء عنيزة وفي عاصمة تركمانستان «عشق أباد» كان محدثي يحدثني عن عواصم الثقافة الإسلامية هناك: نَسَأ، وزمخشر، ومرو، وما إن سمعت «مرو» حتى تذكرت «عنيزة» ويا بعد ما بين «عنيزة» و»مرو»!

وإن باعدت الجغرافيا بين «عنيزة» التي تتوسد بكلتا يديها رمال النفود الرائعة، و»مرو» التي اقشعر جسدها بقرص الجليد، فقد قرب ما بينهما الشعر!

وقتها أخذت، دون أن أدري، أتمتم - وقد ساقني الشعر إلى طقوسه - هذين البيتين الموجعين:

ولما تراءت عند مروَ منيتي

وحل بها جسمي وحانت وفاتيا

أقول لأصحابي ارفعوني فإنني

يقر بعيني أنْ سهيلٌ بدا ليا

إنهما -أيها الإخوة والأخوات- بيتان لمالك بن الريب التميمي، يحن في يائيته العظيمة إلى مراتع صباه في «عنيزة»، وقبل أن يغتاله الموت غريباً في «مرو»!

وما أعظم المأساة أن يوسد جسده تراباً حوَّله برْدُ «مرو» إلى جليد قاسٍ، ولكنه يستدني بكلمات الشعر، دفء عنيزة، يرنو إلى رملها، ويشتاق إلى «الغضا»، فلعله أن يجد فيه»عنيزة» التي يشتاق إليها:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة

بجنب الغضا، أزجي القلاص النواجيا

فليت الغضا لم يقطع الركب عرضه

وليت الغضا ماشى الركاب لياليا

لقد كان في أهل الغضا لو دنا الغضا

مزار ولكن الغضا ليس دانيا

وبعد أبيات يعيش بها وفيها لحظات قبل موته، يستدني صورة الرمل الدافئ، لتقر عين ابن «عنيزة» في ثرى «مرو» بعيداً عن الأهل والوطن:

وما كان عهد الرمل مني وأهله

ذميماً ولا بالرمل ودعت قاليا

أصحاب السمو، الإخوة والأخوات

هنيئاً لكم وهنيئا ً لنا ب»عنيزة» هذه المدينة التي أغرت بالشعر، وفجرت رمالها، وأشجارها، وواحاتها ألواناً من الحنين، وتحولت أماكنها إلى ذكرى عظيمة لثقافتنا العربية، فها هو عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، وهو على ضفاف النيل الخالد لا يجد اسماً يدفىء به روحه، ويثري عقله، ويشعل وجدانه إلا قطعة من «عنيزة»، فيسمي دارته بذلك الاسم الذي أحبه أهل»عنيزة»، وهام به الشعراء: «رامتان» وقد عرف ذلك الشيخ البصير معنى كلمات تحوم حول «عنيزة»، مدينة الثقافة، والذاكرة، والتاريخ، والشعر.

وهاهي ذي «عنيزة» وقد أمدتنا، طوال تاريخها المديد، برموز ثقافية مضيئة في سماء الوطن، في العلوم الشرعية، والتاريخ، والبلدانيات، والشعر، والنقد، والرواية، والفلسفة، والعلوم الاجتماعية.

فمن هنا خرج مفسر العصر عبدالرحمن السعدي، والعلامة الفقيه محمد الصالح بن عثيمين، وعدد من كبار رجالات العمل العام: معالي الشيخ عبدالله الحمدان، ومعالي الدكتور عبدالعزيز الخويطر، ومعالي الدكتور سليمان السليم وعائلته الكريمة، ومعالي الأستاذ عبدالله العلي النعيم، وشعراؤها محمد فهد العيسى، وعبدالله الصالح العثيمين، وأحمد الصالح»مسافر»، وعبدالرحمن السماعيل، والناقد الأدبي الدكتور عبدالله الغذامي، والأديب صاحب الكلمات المجنحة حمد القاضي، والإعلامي الدكتور عبدالرحمن الشبيلي، والسفير محمد الشبيلي، والمفكر حمد المرزوقي، ومؤرخها عبدالرحمن البطحي، ومئات الأسماء التي أسهمت في صناعة الملحمة الوطنية العظمى في البناء والتطوير، وكما قال المؤرخ الشيخ -محمد بن ناصر العبودي- في كتابه معجم بلاد القصيم بأن أهلها يتمتعون بلطف المعشر ولين الجانب للأصدقاء والغرباء المسالمين إلى جانب ما عرف عنهم لحماية العرين والصبر في الذود والذب عن الجار ولذلك فلا غرابة أن تكون حاضرة دائماً في المشهد الثقافي بنشاطات رجالاتها الأوفياء ونحن في وزارة الثقافة والإعلام في الحقيقة أشد فرحاً بإقامة مثل هذه المهرجانات، ويسرنا دعمها بقوة سواء كانت بالمشاركة أو بالتغطية الإعلامية المختلفة، وأحب أن أعلن بهذه المناسبة أن المكتبة العامة في عنيزة وبالاتفاق مع سمو أمير المنطقة سنشتري لها أرضاً وسيتم تحويلها إلى مركز ثقافي في أقرب وقت ممكن.

الإخوة والأخوات

لو سمحتُ للكلمات أن تسترسل لما كفاني هذا الوقت، وأراني مع «عنيزة» وأهلها المبدعين الذين لا أستطيع لهم عدَّا، كما قال شاعر العربية الكبير المتنبي مع ممدوحه:

له أياد عليَّ سابغة

أعدُّ منها ولا أعددها

فشكراً لكم يا إخواني في «عنيزة» على هذه الدعوة الكريمة التي غمرتموني فيها بكرمكم العربي الأصيل، وأرجو أن تجدوا في كلمتي هذه معنى قبسته من «عنيزة» هذه المدينة التي كم علمتنا الأدب والشعر على منحنيات رمال أنشأت قصائد، ونخيل أثمرت شعراء.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

* كلمة وزير الثقافة والإعلام في مهرجان عنيزة الثقافي

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة