Culture Magazine Thursday  24/03/2011 G Issue 336
الملف
الخميس 19 ,ربيع الثاني 1432   العدد  336
 
محمد الأمين الشنقيطي(1-2)
عبدالرحمن الشبيلي

محمد الأمين الشنقيطي (المتوفَّى سنة 1351هـ - 1932م)

من تمبكتو وشنقيط إلى عنيزة والزبير

ظلَّت مدرسة النجاة بالزبير (جنوب العراق) إحدى نقاط اهتمامي التوثيقي، منذ أن بدأت بتتبع سِيَر بعض الإعلام، حيث كانت الدراسة فيها واحدة من القواسم المشتركة بينهم، وشكَّلت إحدى مفردات التأثير في الحياة الثقافية في منطقة الخليج والأحساء ونجد بخاصة، بشكل قد لا يماثله إلا مدرسة الفلاح التي تأسست في جدة مطلع القرن الماضي بجهود مؤسسها محمد علي زينل.

ومن مدرسة النجاة تلك اتسع الاهتمام ليشمل مؤسسها الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، الذي ساقته الأقدار من بلاد شنقيط فيما يسمى الآن موريتانيا؛ ليستقر فترة في مكة المكرمة والمدينة المنورة، ثم لتحذف به ثانية نحو الكويت والزبير وعنيزة، وليترك علامات ثقافية مشهودة في سير العديد من أعلام المنطقة ومشايخها ومثقفيها، وليتكرر ذكره في الكتب التي تناولت تاريخ الكويت وعنيزة والزبير، وغيرها.

ومن خلال الاهتمام بتاريخ المدرسة وسيرة مؤسسها لفت نظري ما وجدته في تراث العلامة حمد الجاسر من نبذ متناثرة عن الشيخ الشنقيطي، كان من أبرزها نبذة موسعة نشرها في مجلة العرب (المجلد 20) عن سيرة الشنقيطي، مشيراً فيها إلى أن عدداً من جيل التعليم المبكر في نجد قد تتلمذ عليه، ذاكراً من تلاميذه علامة عنيزة الشيخ عبدالرحمن السعدي وأستاذ الجيل التعليمي فيها صالح بن صالح، ثم ذكر أن الشنقيطي كان على علاقة وثيقة مع هذه المدينة وأهلها، وتربطه صداقة عميقة مع وجيه عنيزة المعروف علي العبدالله العبدالرحمن البسام المقيم بين عنيزة والبصرة والزبير، وأن الشنقيطي قد زار عنيزة مرتين، وأقام بها نحو عامين، وقابل الملك عبدالعزيز في منزل محمد السليمان الشبيلي، ثم أشار الجاسر في تلك النبذة الموسعة إلى صدور كتاب في عام 1401هـ (1982م) عن سيرة الشنقيطي من تأليف عبداللطيف أحمد الدليشي الخالدي من إصدار وزارة الأوقاف العراقية.

وكانت المفاجأة السارة أن تعيد الدار العربية للموسوعات في بيروت إصدار هذا الكتاب عام 1429هـ (2009م)؛ ما شجعني على تقديم هذا العرض، الذي يركِّز على بسط سيرة الشيخ الشنقيطي وعلى جهوده في تأسيس مدرسة النجاة، وعلى تفاصيل أسباب إقامته في الزبير وعنيزة بعد الحجاز.

والواقع أن الاطلاع على هذا الكتاب قد جلا غموضاً كان يحيط بالذهن، وبخاصة حيال تاريخ افتتاح المدرسة، إلا أن الناشر في بيروت لا يذكر شيئاً عن النسخة الأصل التي أصدرتها وزارة الأوقاف العراقية، وهل يوجد بينهما أي اختلاف والمؤلف واحد، بل لقد ذكر في الغلاف أنها الطبعة الأولى (2009م- 1429هـ).

وتنبغي الإشارة قبل استعراض الكتاب وسيرة شخصيته إلى أن هناك العديد ممن عرفهم الحجاز - قديماً وحديثاً - بهذا الاسم (محمد الأمين الشنقيطي)، لكن التفريق بينهم يكون أوضح من خلال تفصيل سيرته وصورته؛ حيث قد لا يكون بينهم من وشائج قربى أسرية، كما تنبغي الإشادة بالجهد البحثي والتأليفي الأصيل الذي قام به المؤلف لاستقصاء جوانب سيرة هذه الشخصية من خلال مراجعه التي بلغت الستين، ومن خلال مفردات عناوين محتوياته التي اقتربت من الخمسين، كما أن الكتاب وعنوانه: (الشيخ محمد أمين الشنقيطي: حياته، مذكراته، علاقته بملوك وشيوخ الجزيرة العربية) مخدوم بما يحتاج إليه الباحث من فهارس الإعلام والأمكنة والبقاع، والكتاب - بجودة تأليفه - يعد تتمة ثمينة للكتب العديدة والمتنوعة التي صدرت عن تاريخ الكويت والبصرة والزبير والقصيم.

كما أسهب المؤلف، بما يشبه عمل المحققين، من حيث الشروح والهوامش الموسعة والتصويبات، مما يزيد في تقدير أصالة عمله وجديته، وكان وعد في ختام مقدمته بأن يواصل جهده التوثيقي في تدوين تراجم أولئك الذين عاصروا الشنقيطي، ممن لهم فضل في نشر الوعي الفكري في جنوب العراق، ذاكراً محمد الخليفة النبهاني ومحمد العسافي مثالَيْن عليهم، وتمنى أن يكون كتابه بداية سلسلة تحت عنوان: (من أعلام الفكر الإسلامي في البصرة)، إلا أنه على ما يبدو لم يتمكن من ذلك.

وفضلاً عما امتاز به الكتاب من جودة العبارة، وأصالة البحث، فقد أحسن المؤلف بتخصيص الصفحات الستين الأُوَل من مؤلفه لإعطاء فكرة موسعة عن بلاد شنقيط (التي تعني في اللغة البربرية: عيون الخيل) جغرافياً وتاريخياً وسياسياً، وتقديم تفصيل لتركيبتها السكانية المكوَّنة من العرب والبربر والزنوج، وأبان المؤلف شيئاً عن تاريخ موريتانيا (الاسم الذي أطلقه الرومان، وتعني بلاد المورو أي الرجال السمر)، وشيئاً عن تاريخ دخولها في الإسلام مع وصول القائد عقبة بن نافع إلى شاطئ المحيط الأطلسي عام 50هـ (670م).

ويبدو من فحوى الكتاب أن المؤلف (الدليشي) قد عاصر شخصية الكتاب (الشنقيطي)؛ حيث كان الأول طالباً في مدرسة الرحمانية بالبصرة في الفترة التي كان فيها الشنقيطي مديراً لمدرسة النجاة في الزبير بين عامَيْ 1343 و1351هـ (1923 و1932م)، وفضلاً عن معاصرته تلك التي جعلت من المؤلف يكتب عن شخصية معروفة في مجتمع بيئته فإنه قد ارتكز في تأليف كتابه على مصادر عدة، من أهمها:

1 - مذكرات الشيخ الشنقيطي (70 صفحة) التي حررها بنفسه إبان إقامته في عنيزة عام 1336هـ (1915م)، والتي لم تغطِ فترة ما بعدها.

2 - التتمة التي أضافها تلميذه وخليفته في مدرسة النجاة ناصر الأحمد.

3 - المعلومات التي استقاها المؤلف مشافهة من تلميذه محمد العسافي، وهو من أهل عنيزة المقيمين في العراق، الذي كان على ما يبدو ممن لازم الشنقيطي طيلة فترة إقامته في العراق.

4 - البحث الذي قام به المؤلف عن تاريخ شنقيط وجغرافيتها (وهي البيئة التي نشأ فيها الشيخ الشنقيطي قبل هجرته إلى بلدان شبه الجزيرة العربية)، يُضاف إلى ذلك ما تتبعه المؤلف من شعر الشناقطة وثقافتهم الأدبية.

5 - روايات شفهية من عدد من الشخصيات التي درست في مدرسة النجاة، أو عاصرت أو كانت على علاقة صداقة مع الشنقيطي.

6 - اقتباسات من كتاب تاريخ الكويت للمؤرخ والصحفي المعروف عبدالعزيز الرشيد، ومن كتاب التحفة النبهانية لمحمد خليفة النبهاني.

7 - اقتباسات من مقال موسع عن موريتانيا نشرته مجلة العربي الكويتية في العدد 25 من سنتها الثانية (1960م) بقلم محمد عبدالله عنان.

8 - نقولات من كتاب الوسيط في أدباء شنقيط لمحمد أمين الشنقيطي، (وهو يختلف عن شخصية هذا المقال).

عاش الشنقيطي ستة وخمسين عاماً، أمضى منها ثلاثاً وعشرين سنة في النشأة وطلب العلم، ثم بدأ بالترحال بدءاً من بلدان المغرب (الصويرة ومراكش وطنجة والرباط والدار البيضاء) مروراً بمدن الحجاز (مكة المكرمة والمدينة المنورة) وبالكويت ومدن نجد، وبخاصة عنيزة، وانتهاءً بالزبير. وبينما يشير الكتاب إلى رحلات قام بها الشنقيطي إلى الأحساء وعُمان واليمن والهند فهو - أي الكتاب - لا يعطي تفصيلات عن رحلاته تلك ولا عن دواعي سفره إلى تلك الأنحاء، بل إنه لا يعطي معلومات كافية عن إقامته في الحجاز.

وُلد الشيخ الشنقيطي عام 1293هـ (1876م) في تمبكتو الواقعة حالياً ضمن اتحاد مالي، وكانت سابقاً ضمن بلاد شنقيط (موريتانيا)، لكن السيرة لا تتطرق إلى طفولته باستثناء ما ذُكر عن وفاة أُمِّه وهو صغير، وأنه حفظ القرآن الكريم قبل البلوغ، ثم انضم إلى حلقات الدرس لدى علماء بلدته، فدرس مجموعة متنوعة من كتب الفقه والنحو وشعر المعلقات.

وناقش الكتاب مسألة احتمال انتهاء نسب الشنقيطي إلى العلويين (الأشراف) وإلى هجرة الحسنيين (الأدارسة) من الحجاز في حدود عام 169هـ إلى المغرب، ثم سرد الكتاب قصة إصابته في الجدري في حدود عام 1318هـ (1900م) وسفره إلى مصر، ولقاءه بالعلامة محمد محمود التركزي الشنقيطي وزيارتهما معاً الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية.

ثم يروي قصة أدائه الحج عام 1319هـ (1901م) وإصابته بالملاريا التي أقعدته عامين في المدينة المنورة، ذاكراً بعض العلماء الذين درس عليهم، وكان من أبرزهم أديب الحجاز عبدالجليل برادة.

ثم عاد إلى مكة المكرمة؛ ليضطره مرض أستاذه وصديق والده الشيخ أحمد سالم بن الحسن الديماني إلى ملازمته حتى وفاة الديماني في حج ذلك العام 1325هـ (1907م)، لكنه استثمر إقامته تلك في الالتحاق بحلقات الدرس في الحرم الشريف؛ حيث توسع في دراسة النحو والحديث والأدب والمنطق والأصول والتجويد ونحوها في حلقة العلامة المغربي أبي شعيب بن عبدالرحمن الدكالي المراكشي (المتوفَّى عام 1943م)، وهنا يذكر المؤلف أن احتلال فرنسا لموريتانيا عام 1325هـ (1907م) قد دفع الشنقيطي إلى صرف النظر عن العودة إلى بلاده رغم حنينه إليها، وهو ما يصادف وفاة شريف مكة (عون) وتولي الشريف حسين حكم الحجاز وإعلانه الثورة العربية، وأورد الشنقيطي في مذكراته أنه نظم قصيدة في مدح الشريف حسين قال في مطلعها:

سلام أريج المسك من دون نشره

وينسي نديم الخمر صهباء خمره

وينسي من المحبوب وردة خده

وأجفانه المرضى ودقة خصره

وختمها بقوله:

خذوها على علاتها وعليكم

سلام أريج المسك من دون نشره

لم يكن الشنقيطي مختلفاً عن غيره من علماء الشناقطة من حيث قول الشعر، لكنه كان يعترف بأنه لا يعد نفسه في عداد الشعراء من أهل شنقيط.

ويورد الكتاب في ص (88) معلومة مختصرة يُفهم منها أن عهده بالتدريس قد بدأ عام 1326هـ (1908م) في مكة المكرمة عندما طلب منه شيخه أبو شعيب - الذي سافر إلى تركيا - أن يحل محله في تدريس طلبته من قازان مقامات الحريري وألفية العراقي في مصطلح الحديث.

وهنا لا بد مرة أخرى من الاشادة بالهوامش الغزيرة التي كان المؤلف يضيفها إلى كتابه للتعريف بكل الشخصيات والكتب والمواقع التي يمر على ذكرها، لدرجة قد تطغى أحياناً على متن الكتاب.

لكنه وبقدر ما يثري الكتاب بهوامشه فإننا نجده بأسطر لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة يختزل مرحلة مهمة - وإن لم تتجاوز عاماً واحداً - من عمر الشنقيطي ينتقل فيه من الحجاز إلى الهند ثم عُمان والبحرين والأحساء، ويتلقى في الهفوف دروساً على يد الشيخَيْن علي بن عكاس وعبدالعزيز بن حمد آل مبارك وينزل في مدرسة الشيخ أبو بكر.

وهنا نأتي إلى بيت القصيد في عنوان هذا العرض، نفصّله في المباحث الخمسة الرئيسية الآتية:

- إقامته في الزبير وتأسيس مدرسة النجاة.

- زياراته عنيزة وإقامته فيها.

- علاقاته بالكويت وحكامها.

- توجهاته الفكرية.

- زملاؤه ومعاصروه من العلماء.

إقامته في الزبير

وتأسيس مدرسة النجاة:

لم تكن مصادفة هجرة الشيخ الشنقيطي إلى الزبير بأكثر من طلب تلقاه من أستاذه الشيخ أبي شعيب للتوجه إلى هناك؛ ليتولى إدارة مسجد ومدرسة بناهما الشيخ مزعل باشا السعدون في الزبير؛ حيث كان الشيخ أبو شعيب يزمع العودة إلى المغرب؛ فسافر الشنقيطي من الأحساء برفقة أستاذه الشيخ عبدالعزيز بن حمد آل مبارك (وهو بالمناسبة والد زميلنا د. راشد المبارك)، غير أنه بوصوله إلى الزبير سنة 1327هـ (1909م) وجد أن الشيخ مزعل قد توفِّي، وأن العلامة المغربي الشيخ محمد بن رابح قد اختير لإدارة المسجد والمدرسة، فحل الشنقيطي ضيفاً عند علي عبدالله عبدالرحمن البسام وإخوته، وكان ينوي العودة إلى مكة المكرمة، لكن بعض الطلبة والأهل في الزبير يكتشفون مواهبه التدريسية ويلحون عليه بالبقاء في الزبير حيث ذاع صيته مدرِّساً وواعظاً ومرشداً، وشجعوه على الزواج في العام نفسه؛ فاقترن بأم أولاده لولوة بنت سلطان السلطان (الطويل)، ثم أنجبا أربع بنات وابنين بقي منهم يوسف وعائشة وميمونة.

لكن الشيخ الشنقيطي الذي ينغمس في أحداث السياسة في جنوب العراق وتجرُّه دوامة النزاع بين الإنجليز والعثمانيين في رأس الخليج يضطر للتنقل بين الكويت ونجد وبغداد، ثم يعود ثانية نحو الاستقرار في الزبير، حيث تتلاقى رغبة الوجهاء من أهل الزبير لإيجاد موقع متميز لهم في محيط إقليمي يغمره الجهل والصراعات، فاتجهوا في عام 1339هـ (1920م) إلى المطالبة بإنشاء جمعية النجاة الخيرية التي صارت فيما بعد مظلة لتحقيق المطلب الأهم وهو مدرسة النجاة الشهيرة.

وقد استغرق الحصول على الترخيص للجمعية نحو ثلاثة أعوام (1342هـ) (1922م) فاتجه أعضاؤها إلى طلب تأسيس المدرسة الأهلية، حيث صدر فسحها في 8 كانون الثاني من سنة 1923م، وقد تضمنت قائمة مؤسسي هذه الجمعية والمدرسة إضافة إلى اسم الشيخ الشنقيطي كلاً من: عبدالوهاب الطباطبائي ومحمد العوجان ومحمد السند ومحمد العقيل وإبراهيم بن عبدالله البسام وعبدالمحسن المهيدب وداوود البريكان ومحمد العسافي وسليمان السويدان وناصر الأحمد وغيرهم.

* مهرجان عنيزة الثالث للثقافة

مركز ابن صالح الاجتماعي ومركز الأميرة نورة بنت عبدالرحمن الفيصل الاجتماعي

الأحد 10-3-1432هـ - 13-2-2011م


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة