Culture Magazine Thursday  17/11/2011 G Issue 352
فضاءات
الخميس 21 ,ذو الحجة 1432   العدد  352
 
المُعَوّلُ عليه في الثقافةِ التعدُّديّة
ياسر حجازي

1- الخروج من الوصاية

«المُثقّفون يسكنون في برجٍ عاجيٍّ»؛ هذا قولٌ منشورٌ، لهُ حضورُهُ القويُّ، تلوكُهُ أَلسنةُ الملأِ، الشرائح على اعتلالِ طبقاتِهَا، ولسنا هنا نصدّقُه أو نكذّبُه، ربّما نتساءلُ: مَن هذا المثقّفُ المتحنّث بالبروجِ: أهو المؤسّساتيّ الباحثُ عن وجودِهِ داخل ما هُو مُعرّفٌ أو مُغلّفٌ أو مُكلّفٌ؟ أَمْ هوَ المثقّف الذي يأبى انصياعاً حتّى لأفكاره، تجدهُ يملكُها ولا تملُكُهُ، وجودُهُ من جودِهِ؛ وأيّا يكن المثقّف العاجيّ، فإنّ أثر الثقافةِ -بعد قرابة نصف قرنٍ من القنوات الثقافيّة (الخاصّة-على شُحّها)، والأندية الأدبيّة الثقافيّة (العامّة)- هو الكاشفُ عن علّةِ تأرجُح الأثرِ بينَ انفصالٍ واتّصالٍ، ولعلّه يُبيّن ما قدّمَ من فكرٍ وتغييرٍ وتنويرٍ فيما يمكن التماسه في سلوكيّات المجتمع ومدى وعيه وانفتاحه على الثقافات الأخرى، ومدى عصرنة ومدنيّة قوانينه على نُدرتها، وتلك آثارٌ تنوبُ تبعاتها عن اللغةِ في فصحِ الأثر إنْ وُجدَ.

فأينَ آثارُ حداثتهم وثقافتهم –المُؤسَّسِونَ والمُسْتَقلونَ- إذن؟

بلى، انْظُرْ حولَكَ، فماذا تَرَى؟!

لا أثر يكاد يذكرُ في المناهج والنتائج والحوائج والروائج، فأيّ مرافعةٍ لمناصرةِ تراثٍ يتهالَكُ ما مسّتْهُ عصرنةٌ: ماذا نريدُ من التراثِ التاريخيّ، ما الحيُّ فيه وما المَيْتُ؟ ماذا نريد من تراثنا القريب، بينما نقف عند البدايات، ثمّ لا نلتفتُ إلى أسئلة الوجود الثقافي، ماذا كانوا يريدون؟ وماذا نريدُ؟ وأيّ مرافعةٍ لمناصرة «اغترابٍ» يُعلَّبُ ويستوردُ كنَبْتٍ غريبٍ، وأيّ مرافعةٍ تتجرّأُ أن تقدّم في متونِهَا تجارب المستقلّين المختلفين، كأمثال: عبد الرحمن منيف، وعبد الله القصيمي، وتجارب أخرى تخالف الثقافة السائدة، وبقيت كأنّها (ويلٌ وثبور-تابُو) لا ينظرُ إلى كونها إثراء نهلتْ منهُ دولُ الجوارِ، وبقينا منه واجمينَ أو مُتلصّصينَ؛ ماذا كانوا يريدون؟ وماذا نريد؟

وأيّ واقع هو اليوم، كأنّهُ على الظنِّ ارتدادٌ ثقافيّ، وعلى اليقينِ جمودٌ جاثمُ؛ تتعاقب السنواتُ ونحنُ عالقونَ في شرَكِ المصطلحاتِ، وهميّةِ المفاهيمِ، ضبابيّةُ الثقافةِ الأُحاديّة.

كيف يُقبل أنّنا ما زلنا نخلط بين الأدب والثقافة، في تلبيساتٍ غرائبيّةٍ تتلبّسُ المشهد الثقافيّ اليوم، بين إقصاء المثقّف من جمعيّات الأنديّة الأدبيّة وتنقية دماء الأدباء ممّا قد يمسّهم بسوءٍ، وليس انتهاءً بولوج الأدباء ملتقيات المثقّفين وصايةً على القُصّر واليُتّم من المثقّفين، وحماية لمفهوم الثقافة الشمولي من جانبها الأدبيّ، كأنّ الأدب يجُبُّ وينوبُ عن باقي العلوم في كفاية شموليّة مفهوم الثقافة.

إنّه التيه إذن؛ طالَ واستطالَ- بكلّ الجهاتِ (مؤسَّسون ومستقلّون، تابعون ومبدعون)، وهناك مَن يحتفِي بما يظنّها مكتسباتٍ ومشاركاتٍ وانتخابات، لكنّ الأمور بخواتيمها، والخواتمُ ميعادها الغيبُ، بيدَ أنَّنا نجنحُ للقولِ الفصلِ: (لَوْ راحْ تُمطرْ كانْ غيَّمَتْ)،

فما قولُكُم -يرحمكم اللهُ- وقدِ استُبْعِدَ المثقّف من أَنْديَتهِ وفق حُجَجٍ –ربّك العلاّم كيفَ تستقيمُ!- (إن كان التخصّص، أو العدد، إذْ يخشونَ أنْ تَعُبّ أروقة الأندية بأعدادٍ غفيرةٍ في جمعيّاتها، فلا يصبح الوصيّ عليهم بمُسيطر)، هكذا يستلزم الأنديّة أن تعيد النظر في تسمياتها، (النادي الأدبيّ الثقافيّ)، فأيّ مفهومٍ للثقافة يبقى بعد هذا الإقصاء، ولعلّ مقالتَي: «الانتخابات الأدبيّة وفلولُ النظام الثقافي»، و»مُلتقى المثقّفين الثالث في ظلّ أزمة إسقاط النظام الثقافي» للأستاذة سهام القحطاني المنشورتان (هُنا/في الثقافيّة) على التعاقب (عدد 349، 350)، هما مقالتا ارتكازٍ وأسسٍ يُبنى عليهما، ويعوّلُ من خلالهما رؤية واقعيّة لمأزق الثقافة الرسميّة من زاوية لائحة الانتخابات الأدبيّة وتأويلات نصوصها وثغراتها أيضاً، ولهما السبقُ في قراءة وتحليل الوقائع، التي ضربت مفهوم الثقافة لتردّه ثانية إلى مأزق المفهوم، كأنّها الأزمة ردّة ثقافيّة، نعوذ المثقّفين المستقلّيين أنْ تنتهي غاياتهم عند عضويّة في جمعيّة أو كرسيّ في مجلس إداريّ، فمتى خرج التجديد والتغيير من جُبّةِ المؤسّسة، ومتى كانتِ الثقافةُ التي تنفع الناس -فلا تُفضي زبداً -كرسيّا في بروجٍ عالية.

لئِنْ كانَ في البُرجِ ما يعوّلُ عليهِ على نطاق التعدّديّة فإنّ التمسّك في ثياب المؤسّسة فرضُ كفاية على الجميع، لكنّ البرجَ برجٌ، هيهات يبلغُ الأسبابَ فهو في عيشة راضية، أمّا المثقّف الحرّ فهو الخارج عن أيّ وصاية، نزعته حُريّتُه، مذ وعَى قدرهُ في رؤية الأشياءِ بوضوحٍ، ثُمّ قدرهُ في انتزاع المواقف والمضيّ دفعة واحدة في سبيل ما رأى، وفق تعريف الراحل عبد الله باهيثم للثقافة: (أن ترى بوضوح وأن تمضي إليه دفعة واحدة)؛ وإنْ عَجِزَ المثقّف فالعزلة أحرى، ثمّ أولى له؛ فعلَى ماذا يراهنُ المراهنون؟

المُعوّلُ عليه في التعدّديةِ الثقافيّةِ لا يُرْتَجى من عباءة رسميّة، لطالما لها غاياتها، وما نجادل في قيم تلك الغاياتِ أو نطعن في سلامتها –معاذ اللهُ فنحن نسعى أن نكمّلَ المؤسّسة- إلاّ أنّها تبقى أُحاديّة، لها منظارها، ونحن في نهاية الطوافِ نستسلمُ للبديهيّة: أنّ لكلّ مؤسّسة رؤيةٌ أُحاديّةٌ، لا تُنقص من قيمتها، وهي علّةُ وجودها، وهي –في قوّتها الوجوديّة- لا تقبل الشريك أو التحالف.

المعوّلُ عليه في التعّدديةِ الثقافيّة يُرْتجى في الثقافة الخارجة/الشريدة/الطريدة، فالمستكينُ لونٌ والمضطربُ ألوانُ؛ وإنْ كان للتعدّديّة الثقافيّة طرائقها، وتأثيراتها على صناعة القرار أشكالا عديدة في مجتمعات أخرى، إلاّ أنّ الواقعيّة والعقلانيّة تلزمنا أن نرى بأعيننا، أن نرتكز على ما هو قائم لدينا، فلا نستورد حالات وإن تشابهتْ كما نستورد مصطلحات ونقف لنضرب أخماسا بأسداس حول مفاهيمها -أعزّك اللهُ من جهل اللغة- والمتاحُ والمباحُ اليوم في مجتمعنا كباعث للتعدّدية، وهو المُكتسبُ الذي يُبنى على الشيء مُقتضاه، يُوجزُ في: (الصالونات الأدبيّة والثقافيّة، المجلاّت والملاحق الثقافيّة على شُحّها كمّاً، وعلى نُدْرتِها قيمةً، الصحافة الإلكترونية، المواقع الاجتماعيّة/المشاعُ المُعولم)، وهذه القنوات أزعم أنّها المُتمّم، لمعادلة: (العام والخاص).

وهذه القنوات الأهليّة على الرغم من تقاليدها إلاّ أنّها من التلقائيّة الماهرة بحيث تفلتُ بمكرٍ –كُلّما دَعتِ الحاجة- من الأُطرِ التي تضعها بنفسها أو تُفرضُ عليها، والمترجى منها تثبيت التعدّد في التيّارات، بل لعلّها نواة تكتّلاتٍ هِي انعكاسٌ لطبيعة أيّ مُجتمعٍ تعدّديٍّ، فما تقدر المؤسساتُ الرسميّة احتواءَ التنوّع والتعدّد بنِسَبٍ تُرضي اختلاف الاتجاهات، ذاكَ ديدنُها، لطالما ضمّت نخبة مُصطفاة أو (منتخبة) فهي في -المرجّح الظنّي- على نغمةٍ واحدةٍ وآلية واحدةٍ، تابعة غير مُبتدعة، فباستثناء القوانين واللوائح الناظمة لحقوق المؤلفين والنشر، وما يدور في التشريع الثقافي، تبقى أيّ توجيهاتٍ وتعليماتٍ وتنظيماتٍ في مضمار الثقافة ذاتها يسوقها سوقاً في إطار (أحداثيٍّ-سِن الوصاية) دخولاً بنموذج معلومٍ، هو حصانةُ الإطار وحصافته، هكذا يؤول النموذج (بعد اقصاء المؤثرين واللاعبين المشاغبين-المثقّفين) تحت عين الرقيب/الوصي، وتكون المداولات والمناقشات والمرافعات والتصوّرات والتطلّعات، كلّها مشتقّة من جُبّة الإطار/النموذج، ويمكنُ إمعاناً في الهامش، أن يُناقش التنوّع داخل النموذج (الوحداني) لأولئك الذين هم من خارجه، ثمّ إنّه لا مُفاجآتٍ ولا من يحزنون.

وتدور الأرضُ دورتَها إذنْ، ثمّ، لا مُنجزَ لتلك المداولات؛ فما أخرجَ الحداثيّون حداثةً، وتاهو في صحراء أزمةٍ عقيمةٍ مع التكفير والتقليد، لم تصل إلى حدِّ الجدل الماديّ الذي يُنتج فكراً، وما أخرج العلمانيّون علمنةً، وما أخرج المجدّدونَ تنويراً؟

هل مرّوا خفافاً ها هنا؟... هل كانوا على هذه المعمورة؟

الثقافة المؤسّساتيّة لا يعوّل عليها منفردةً في حراكٍ ثقافيٍّ؟ وأظلُّ على زعمي، أنّ الدولةَ ليس من واجبها أن تحمل الهمّ الثقافيّ كلّه على عاتقها، إنّما هي مسؤولية مشتركة، كما هو الحال في التعليم، والصحّة؛ فالحاجة قائمة للقطاع الخاص سدّاً للنقصان؛ وكذا شأن الثقافة، لن تشهد تنويراً وتنويعاً إنْ لم يتدخّل القطاع الخاص في دعم تيارات واتجاهات مختلفة، إثراءً لمجتمعٍ يكتنز ثقافات عديدة وأعراق أيضاً.

أزعم أنّ مفاهيمَ الحريّة، العدل، المساواة، القانون، المواطنة، والتعدّدية مفاهيمٌ ليست مقتصرة على الفكر الديمقراطي الغربيّ، إنّما هي أصول قد يستند عليها أيّ فكْرٍ تشريعيّ ونظامٍ، مهما تضاربت وتناقضت وسائله التشريعيّة، ويبقى -بزعمي- أنّ أيّ آليّة انتخاب مجرّدة من قيم الفكر المدنيّ، هي على نعتِ أرسطو: «أسوأ أنواع الحكم، وأنّها حكم الغوغاء»، فليست غاية حتّى أجيزَ لنفسي أن أعتبرها مكسباً، بينما ما زالت الرقابةُ ثُقلاً فوق كواهل المفكّرين والمثقفين والأدباء، سياجاً على التعدّديّة والإبداع، فأيّهما تريد أيّها المثقّف الحرّ، أيّهما مكسبٌ تنويريٌ تاريخيّ: انتخاباتُ أنديّة أَمْ إلغاء الرقابة؟!

Yaser.hejazi@gmail.com * جدّة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة