رواية النبطي للكاتب يوسف زيدان تفتح للقارئ نافذة عن حياة الأنباط وعن انتمائهم العرقي، وعن مكانهم، وزمانهم، كما أنها توضح للقارئ عن أعمالهم، ومعتقداتهم الدينية. ولرواية النبطي شخصيات كثيرة ومن هذه الشخصيات، مارية، وسلامة المكنى بسلومة، والنبطي، وعميرو، والهودي، أما أبرز الشخصيات في نظري فهي شخصية مارية وشخصية النبطي، فجزء من الرواية يكشف لنا جانباً من الصراع المسيحي - المسيحي واستمرار الصراع إلى ما قبل ظهور الإسلام بعقد أو أقل بقليل، وكأن الكاتب يوسف زيدان يريد أن يقول للقارئ إن رواية النبطي هي تكمله لرواية عزازيل التي أخذت شهرة واسعة على المستوى العربي والعالمي والتي فازت بجائزة البوكر، فإن بداية القراءة في النبطي توحي لنا ذلك أن الرواية بدأت بالمفهوم المسيحي والنقاش المسيحي والذهاب إلى الكنيسة واختلاف المسيحيين فيما بينهم عن طبيعة المسيح، حيث أتى الحوار في رواية النبطي بين مارية والقس كالآتي:
«لكن بلدتهم يا سيدي، فيها كنيسة كبيرة فوق بُرجها ناقوس، وكنيسة الباطل.. ما فائدة الناقوس مع مخالفة الناموس. العقيدة أهم من الكنيسة، ومن الأجراس والشموع، وهم لا يعتقدون الحق، ولا يعترفون معنا أن المسيح والله من طبيعة واحدة، ويقولون بجهل وتبجح إنهما عن طبيعة واحدة.»
أما في رواية عزازيل لنفس المؤلف فقد جاءت هذا الأسطر: «إنكم لم تصدقونى حين قلت لكم إن خلافنا حول طبيعة المسيح، هو جوهر ديانتنا. وإن الجوهر ذاته دقيق ومشكل وينذر بالانشقاق والفرقة». ففي روايتي عزازيل والنبطي يدور النقاش بين المسيحيين عن طبيعة المسيح وأن الصراع الذي وقع بينهم بسبب اختلاف اعتقادهم بالمسيح فمنهم من يقول إن المسيح هو الله أو ابن الله والبعض يقول خلاف ذلك. وكما يظهر في الرواية الصراع النفسي في الشخصيات، فمارية مثلاً القلق والخوف دائماً يصطحبها من بداية حياتها في مصر ومن ثم متنقلاً معها إلى بلاد العرب والعيش مع العرب، وهذا القلق ناتج من فراق أمها واصطدامها بثقافة وعادات وتقاليد جديدة مع عرب الأنباط، وكذلك اضطراب نفسية النبطي بسبب اعتقاده بأن وحياً يأتيه وهذا الاضطراب يجعله في الرواية شخصاً منطوياً على نفسه دائماً وقليل الكلام، والرواية في نظري تعالج الماضي وتتطلع إلى المستقبل برؤية جديدة عندما يبلغ الأنباط أخبار النبي الجديد الذي يدعو إلى الدين الجديد، وبدأت في الرواية تتلاشى المعتقدات القديمة إلى أن يعتنق البعض من الأنباط الإسلام وتبدأ حياة جديدة ومستقبل مشرق في المنطقة التي تدور فيها الرواية وهي مصر وأرض الأنباط والواقعة بالقرب من جزيرة العرب. أما ظهور بشائر الإسلام فعبارة عن قوة الفكر الذي يحملها المسلمون وأن المعتقدات الأخرى بدأت تتلاشى أمام هذا الدين، وهذا ما يريد أن يصل إليه الكاتب، وكذلك قوة الخيال في التنقل من مكان إلى مكان آخر جعلت الرواية تظهر بصورة جميلة فاجتمعت الأفكار والخيال فجعلت الرواية أكثر جمالاً، والأفكار تتبلور في الرواية في المعتقدات، المسيحي - المسيحي وفيما بعد ظهور الإسلام، والعادات والتقاليد عند الأنباط من تجارة، والنحت في الجبال، وطريقة أعراسهم وأفراحهم ومعتقداتهم. وهكذا يمضي بنا المؤلف بإبداعه اللغوي وخياله الواسع في الرواية إلى رحلة مارية الطويلة من مصر إلى بلاد الأنباط ومن ثم إلى مصر مرة أخرى عندما تعود مع زوجها سلامة مسلمة وتشهد فتح مصر على يد عمرو بن العاص، وهي مرحلة جديدة تشهدها مصر من الصراع المسيحي - المسيحي إلى دخول الإسلام. ومضت بطلة الرواية مارية بقلقها المعهود في آخر الرواية واصفه نفسها ومغادرتها لبلاد الأنباط، وتاركه النبطي خلفها: «القافلة تمتد أمامي، كخيط رفيع، وخلفي يقف النبطي في ثوبه الأبيض، كأنه حلم ليل حزين.. التفإليه مرتجفة الروح، فرأيته وحيداً بين الأحجار والرمال، من ورائه الجبل ومن أمامه المصير المحتوم.. انحرفت بي البغلة، مع ذيل القافلة الهابطة إلى السهول، فلم أعد أشاهد بعيني غير رؤوس الجبال، لكني شاهدته في قلبي واقفاً في موضعه، ينتظر في هذا التيه أمراً قد يأتيه أو لا يأتيه».
-
+
batawil@gmail.com
- جدة