Culture Magazine Thursday  16/06/2011 G Issue 346
مراجعات
الخميس 14 ,رجب 1432   العدد  346
 
استراحة داخل صومعة الفكر
رقصة الفستان
سعد البواردي
-

صلاح بن هندي

143 صفحة من القطع المتوسط

كل شيء نعرفه يرقص. الجسد يرقص. العاطفة ترقص. العاصفة ترقص. الضوء يرقص. الشِّعر يرقص. الشَّعر يرقص. أغصان الشجر ترقص. النغم يرقص. الموج يرقص.. حتى الطير يرقص مذبوحاً من الألم.. إذا فلماذا الفستان استثناء لا يرقص.. الرقص حركة ارتدادية أشبه بالجزر والمد لها إيقاع متعاقب.. ووقع على الحس تتحمله أيضاً.. وتضيق به أحياناً وفق هدوءه وصخبه وقابليته لطاقة النظر والسمع والحس.. والنفس.. السؤال: أي رقصة تلك التي عناها شاعرنا؟ أرقصة أوتار عرس؟ أم رقصة ذبيح أو جريح يتلوى ويتأوه من غصة جرحه؟!

«شقراء المرأة» بداية منه كانت الوجهة الأولى. والمواجهة الأولى.. والمفاجأة الأولى.. ماذا تعني من صور وحركات؟!

وقفتْ لدى المرأة تمشط شعرها

حسناء تحسدها الحسان لحسنها

يتناثر الشعر الطويل سبائكاً

كشعاع شمس شع فوق متونها

ليته أبدل «يتناثر» بـ «يتمادح» أي يرقص!

والسحر في العينين أعلن حربه

مثل الرموش عليك من أجفانها

ذكرني بيته هذا ببيت الشاعر القديم:

إن العيون التي في طرفها حور

قتلتنا. ثم لم يحيين قتلانا

الحسناء معجبة بحسنها إلى درجة الافتتان.. وبثغرها الباسم.. وبالمساحيق التي تغطي وجهها.. وبالقرط الذي يتدلى من أذنيها.

خرجت تسير على بلاط فنائها

فكأنها بلقيس في إيوانها..

هكذا وصفها شاعرنا فأجزل الوصف..

شاعرنا يشتكي مر الشكوى من وحدته.. والوحدة عذاب:

الهجر يعزف.. والنوى يترنم

والقلب في قيد الجوى يتألم

وسياط حزني في ظهور مشاعري

تعدو كخيل في السباق تحمحم

وأنين صدري في الضلوع عواصف

تذرو الصبابة والهوى يتحطم

وجع على وجع تراكم فوقها

سهد الليالي والأسى المتضرم

إنه يتذكر طيفه الطائر.. يقرأ رسالتها.. خطها اللاهب. أريكتها

ذبلت زهور المزهرية بعدنا

فخارها بعد النوى يتهشم

في هذا ما يكفي لرسم خطوط غربته التي يكابدها..

حتى شهريار انكسرت.. بقي شهرزاد يندب حظه:

يا أنتِ يا لهبا تغلغل في دمي

وكسى العيون تألقاً وتحيرا

يا أنتِ يا جسداً أحال فظاظتي

مزقا. وأيقظ رقة وتحضرا

أنتِ الجمال. وأنتِ يا حوريتي

كنة الجمال إذا الجمال تصورا

هذا ما قاله لشهرزاده.. ماذا قال شهريار عن نفسه؟

أنا شهريار ذكورة عربية

قتل الصبايا غيرة وتحسرا

ورأى الأنوثة لعبة أزلية

والعذر في طبع النسا متجذرا..!

النساء يا شاعرنا ليست لعبة يلهو بها الرجال لو أنصفنا وعدلنا.. الرجال أيضاً يا عزيزي بعضهم يمتهن الخديعة والمكر.. علينا أن نعدل.

«لحظة شك» عنوان جديد.. إلا أنه مدمر:

اتركوني فقد سئمت حياتي

ليس عندي شهية في الحياة

انقذوني وأسعفوني فإني

كغريق يريد طوق النجاة

لا أريد الحياة فالموت عندي

هو طوق النجاة من بحر ذاتي

ما دمتَ اخترته الموت كطوق نجاة فلماذا طلبت الإنقاذ إذا؟! أنت تسبح بهذا الاختيار ضد التيار!!

ماذا عن غادة الكاميليا؟!

في عالم الأشواك كانت وردة

حمراء تنشر عطرها وعبيرها

جاءت وفي العينين سحر أنوثة

يسبي الذكورة عقلها وضميرها

ليست ثياب الملك وهي فقيرة

والكل عشقاً يستطيب حضورها

وتنقلت ما بين عباد الهوى

والعشق أمسى للئام سفيرها!

ماتت فمات الكل من غصص البكا

فالكل أمسى في الغرام أسيرها

«ماري» وداعاً. والوداع يهزني

هذي الرواية قد بكيت سطورها

قصة لا تحوجني إلى تعليق أكثر من ضعف الطالب والمطلوب.. انتهى المشهد.

لأحلامه فارس يمتطي جواده يزرع الأرض طولاً وعرضاً:

أنا في انتظارك أيها الأمل الجميل

ما زلت أمشط شعر أشواقي الطويل!

وأسرح الأحلام - يا عمري

مشوار الحنين..

أنا في انتظارك كلما طلع القمر أنا في انتظارك

كلما غنى الحمام على مواويل الشجر يا سيدتي

على شرفة بيته الصغير يرنو إلى وجهها الصبوح كطيف لطيف يحوم في فضاءات الأفق.. ويودعها حنانه وحنوه وأمل أن تأخذه معها على ظهر جوادها الأبيض نحو آماله وأحلامه.

ولكي أغني بالسعادة كالطيور

ما أروعك.. ما أجمل الدنيا معك

حب رومانسي لا يشفع له بالصعود.. ولا يشفع لها بالهبوط.. مكتفياً منها بالنجوى.. لعل فيه بعض السلوى..

«القدس واليأس» في منظاره ومنضوره رفيقان لا يفترقان!

جرح تجذر في ثرى أعصابي

حتى تفرغ في أصول سحابي

يمتد جرحكِ من نعيم طفولتي

حتى جحيم كهولتي وشبابي

يا قدس في جرح الملايين التي

عشقتك جرح مصائب وصعاب

ما زالت الأجيال تقتات المنى

وتخيط ثوب الحلم بالأهداب

حتى أنا ما زلت أرشف منيتي

وأحرك الأحلام في أكوابي

طارت من الأحلام كل بلابلي

لم يبق إلا بومتي وغرابي

ورقصة حلم جميل يتراءى في سماء الغد ينشر الضوء والنقاء والطهر على قباب القدس ومآذنها وهي تهتف نشيد «الله أكبر فوق رجس المعتدي»

«جدلية الذات» تجربة شعرية لشاعرنا صلاح بن هندي.. كيف صاغها؟!

منذ اصطليت من التفكير بالشعل

ما زال عقلي مشغولاً بلا شغل

ما زال في شكه طيراً تحاصره..

قضبان فلسفة الميلاد والأجل

ما زال شكي في عقلي مغامرة

وسندباد يقيني باء بالفشل!

لماذا كل هذا..؟! أين يقينك؟!

أبني يقيني على شطآن ذاكرتي

فيغرق الشك ما أبنيه بالوشل

حتى وجودي الذي أحيا حقيقته

غدا مجازا من الكلمات والجُمل!

أطوي الزمان وعقلي رهن أسئلة

كالسوس تنخر في عقلي على مهل

كل الإجابات خجلى في خنادقها

تذرعت ويحها بالصمت والوجل

كثير هذا الضياع.. ومثير أن لا تستجيب لنداء عقلك الذي يكشف لك الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.. لا ضياع مع العقل والنقل مجتمعين

هذه المرة شغلت هواجس أمانيه التي لا يمكن تحقيقها:

أقصى الأماني أن يعود شبابي

ويقوم من تحت الثرى أحبابي

وتعود أيام الصفاء فإنها..

هي لوعتي بعد النوى وعذابي

هذه الحياة وما تغير شعرها

وأن ابنها ملَّ البياض خضابي!

عقد السنين تناثرت أيامه

فبقيت التقط المنى لمصابي

قبلك تمنى العودة لشبابه.. بل لطفولته البريئة.. والأمنيات لها حدود مستجابة إلا العودة إلى الوراء في أدبيات العمر..

ألا ليت الشباب يعود يوماً

فأخبره بما فعل المشيب..

رواية «أحدب نوتردام» لفيكتور هيغو من أروع العطاء الفكري الإنساني.. طافت في خياله.. أحبها وأحب أحدبها:

لو كان دميماً يعجبني.. يعجبني أحدث نوتردام

ما أبشع ظاهره لكن! ما أجمل باطنه المشبوب بالحب

يا أحدب. كم يشقى البسطاء كي ينعم بالدنيا الأسياد!!

القبح الظاهر يا أحدب عار لا يمسح بالأخلاق!!

والقبح الباطن يستره حسن في الوجه البراق!!

«في حضرة المأمون» عودة إلى التاريخ.. استرجاع للماضي الحافل بأحداثه: ورسالة عتب لا ينقصها الحب..!

إني أتيتك من زمان لم يكن!

فأعجب فهذا بالتعجب أليق

لكن قرأتك في «الأغاني» سيدا

وممدها في عقد من تشرق

فأتيت أمدح جود كفك ساعة

وأعود للزمن الذي يتخلق

حياك شعري والأحاسيس التي

دوماً إلى يوم اللقاء تتشوق

ولقد أتى يوم اللقاء فها أنا

بقصيدتي عند الخليفة انطق

وأخال أني أمتطي ظهر المدى

أو أنني بنجومه أتمنطق

وراح يعاتبه على شيء ما علق في نفسه.. وفي نفوس كثيرين غيره:

يا سيدي عفواً إذا ما اجفلت

خيل القصيد. وهاج فيّ المنطق!

فلقد أثار حفيظتي ومروءتي

جلد «ابن حنبل» وهو عند موثق

ويختتم مقطوعته بهذا البيت المعبر:

إن ضاق بي حساد أرضك ها هنا

في أرضي «الأحساء» من هو أضيق

لشاعرنا وقفة لا تخلو من خصومة مع أسواق الأسهم.. أحسبه أحد ضحاياها.. وما أكثرهم.. وما أمرّ تجربتهم التي انتهت إلى إفلاس.

ما عاد للشعر الأصيل مقام

فعلى القصيدة رحمة وسلام

وعلى الثقافة أدمعي مسفوحة

فلقد توارى في الثرى الأعلام

ما عادت الألحان تأسر سمعنا

فالأسهم الألحان. والأنغام

وللأسهم الأرحام تطلب وصلها

صالاتها الأخوال. والأعمام

شغلت مجالسنا فحل حديثنا

عنها. وعنها كم يطول كلام

ويضع يده على الدمل وهو يشكو:

الكل باع رخيصه. ونفيسه

وأتى البنوك تزفه الأحلام

لعب الهوامير الكبار بسوقها

وإلى الصغار تصدر الأوهام

الكل في الصالات يرقب شاشة

أرقامها الميلاد. والإعدام

سهمان ينطلقان من لونيهما

تتوتر الأعصاب والأحسام

إن كان أخضر فالحياة مضيئة

أو كان أحمر فالحياة ظلام

ونهاية المطاف.. قطاف فجيعة ووجيعة:

كم عاشق فقد الحياة بسوقها

والموت في شرع الهوى إقدام

يا من طعنت بخنجر من كفها

صبراً. فقد تصفو لك الأيام!

شاعرنا في شطره الأخير يقوم بدور معزي سلامات!! الصبر مر.. والحصاد أمر.. والتجربة غير قابلة للإعادة إلا للمغامرين ومصاصي الدماء!!

«عندما يشقى العظماء» عنوان له ما بعده:

كثير مناقبي. وقليل مالي

هما عيبي الذي أزرى بحالي

هما همّي الذي أدمى فؤادي

وكدّر عيشتي بين الرجال!

عددت مناقبي فوجدت فيها

كما في الأرض من عدد الرمال

فهو له وسامة المنظر والمخبر.ملم بعلم التصوف.. والتوحيد.. وهو البليغ والمفوّه.. وهو الفيلسوف.. وهو الفارس.. وهو.. وهو..

جمعت مناقب الماضين طرا

لواء المجد تحمله خصالي!

ولكني على رغم المعالي!

أرى أني فقير للريال

فلو جاع العيال فلا كتاب

ولا علم سينفعهم حيالي

فلو كان «الموشى» لهم ضأن

لما خطرت مجاعتهم ببالي

ولو كان الأغاني خبز بر

لأشبعهم على مر الليالي

ولو كانت مقامات الحريري

دجاجا ما جزعت على عيالي

ولو كان المهذب زير ماء

لنمت قرير عين لا أبالي

ولكن الدفاتر عند أهلي

بلاء فيه بُعدي واعتزالي

بهذا التوصيف الكاريكاتوري الرائع قدم لنا شاعرنا المتألق صلاح بن هندي لوحة ضاحكة ورائعة تدل على موهبته وقدرته في رسم الخطوط وتشابك الخيوط.

أخيراً.. أجتزئ بعض أبيات من مقطوعته «بلاط الشهداء».. عندما تستيقظ الطفولة:

أتيت أطوي شريط العمر أرجعه

إلى زمان به أنسي وتذكاري

«بلاط» يا شرفة تفضي إلى زمن

أضعته بين أعوام وأعمار

أتيتك اليوم كهلاً شاب مفرقه

وذي الثلاثون تعدو فوق مضماري

أتيت أبحث عن طفل سعادته

ما اجتاحها الهم أو شيبت بأكدار

طفولة الأمس ما أحلى تذكرها

وما أرق نداها فوق أزهاري

«بلاط» يا منبع التنوير يأسرني

قديم عهد تسامى فوق أفكاري

كم جئت أعدو إلى الطابور في وجل

أظل أرنو إلى ثوبي وأظفاري

استرجاع لذكريات طفولته.. عاشها.. وعايشها.. ونبشها من مخزون ذاكرته كما ينزع كل واحد منا تجاوز أحلى ما في حياته من مراحل.. يا رفيق رحلتنا وشاعرنا صلاح بن هندي.. كم كنت رائعاً وأنت تعطي لنا تجربة شعرية شعورية نابضة بالحياة.. وبالاقتدار.. لك المزيد من التوفيق.. (انتهى).

-

+ الرياض ص. ب 231185 الرمز 11321 ـ فاكس 2053338

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة