أصبح الإيمان بالميديا واقعاً تحرر من معوقات المؤسسات الثقافية والسيطرة على التفكير تمثل في انتقال مركز الثقافة المؤسسية التقليدية إلى فضاء الإنترنت. إن الرهان على أن كثيراً من النتائج يمكن تحقيقها من اعتمادنا ثقافة المنتديات مرهون بقدرتنا نحن على استيعابها وتوظيفها والقدرة على معرفة أسرارها وكيفية جعلها تتسع أو تضيق.
يمكن الإشارة إلى أنه ما إن وجدنا أنفسنا مقابل كل هذه الأعداد المتزايدة من المنتديات الثقافية حتى أدركنا أنه لم يعد من مجال للعودة إلى الوراء ولم يعد لنا من خيارات سوى أن نمضي قدماً، نساهم ونطور ونقيم ونحلم بالأفضل والأجدى.
اعتبرت المنتديات منفذاً مهماً في تلقي الأفكار الجديدة ونشرها وتبادل الأفكار والآراء الجديدة، فساهمت المنتديات الثقافية في إظهار مواهب جديدة بفتح الباب لكل إبداع ومنحه مكاناً وفرصة للتعريف بموهبته وتعزيز إبداعه ونشره.
ما زالت المنتديات الثقافية تتطلع إلى أن تواكب الهم الثقافي وتنطلق من موضعة الثقافة في النطاق الفضائي الإلكتروني وهي تجتهد لتشكل منطلقات تنويرية وتغييرية في المجتمع وتلك بالتأكيد أهداف مشروعة لمبرر وجودها، وتسعى المنتديات إلى ربط الثقافة السائدة المحددة بالثقافة المفتوحة وإعادة جوهر الفعل الثقافي في فعل التغيير والتحديث.. من هذه المنطلقات نجد أن هناك تجربة رائدة وجميلة ولكنها تتحرك ضمن فضاء التجربة من جهة ومغامرتها من جهة وعلى الحواف من جهة آخرى. ولهذا لا يمكن أن نحدد الشكل الأمثل للمنتديات. أو الى متى سنظل مستهلكين للمعرفة بدلاً من إنتاجها وإعادة تعريفها عبر المنتديات الجادة المؤثرة.
يمارس الأعضاء المنتسبون للمنتدى الثقافي بشكل شبه مستمر فعلاً ثقافياً على مدار الساعة واليوم لكننا لم نصل إلى الرضا بما هو قائم. وعلى الرغم من الحضور والنجاحات التي تحققت من خلال تجربة المنتديات فإننا ما زلنا نرى أن إمكانات الفعل الثقافي في هذه المنتديات هو أقل مما نتوقع ونأمل. وعلينا أن نتساءل عن الجوانب التي أغفلنا في تجربة المنتديات الثقافية؟ وكيف نعمق التجربة ونفعل دورها في حركة الإبداع الثقافي؟ كيف نفعل دور المنتديات بعيداً عن الطابع الاحتفالي وكيف ننخرط في الفعل الثقافي دون تبديد الجهود؟ وهل نركز الجهود على الكم في الحضور أو النوع المعرفي؟ وما هو الأجدى؟ وكيف السبيل إلى الأمثل في عالم المنتديات الثقافية؟
هناك محاولات للإحاطة ببعض تفصيلات معرفة أين تقف هذه المنتديات، وهل ستشكل بديلاً عن الملاحق الثقافية الورقية؟ لا شك أن الذين أنشأوا هذه المنتديات كانوا مدركين لأهمية الثقافة الإلكترونية ودورها في توسيع مساحة الأفكار والحوار. ومن هنا أوجدت الثقافة الإلكترونية أخلاقياتها التي كان عليها أن توجدها ممثلة في قوانين المنتديات وأعرافها.
إن استخدام الإنترنت والمنتديات قام بدور رئيسي في تكوين علاقات تقوم على التقارب الفكري وتعزيز الانفتاح الثقافي ويشير الإقبال المتزايد عليها إلى أهمية دورها ومدى تأثيرها في التكوين الثقافي. وبات الكثير من المنتديات الثقافية مثار جدل بين من يدافع عن تركها مجالاً مفتوحاً للرأي والرأي الآخر وبين من يرفضها, وتطور الأمر في مراحل سابقة إلى حد إغلاقها كما حدث لمنتدى طوى أو حجبها مثل منتدى الطومار.
لا ننسى أيضاً أن نشير إلى حضور المرأة في المنتديات، حيث حضرت بقوة وكان لها مساحات ومشاركات إبداعية وإيجابية، حيث وفرت المنتديات الثقافية للمرأة خيارات عديدة ومنافذ متاحة للتعبير عن الحضور الفكري والافتراضي داخل الشبكة الإلكترونية، وأصبحت هذه الخيارات اليوم حاجة أساسية لمرتاديها من سيدات المجتمع بكل أطيافه، فهي بمثابة متنفس للمواهب والطاقات الإبداعية حيث يسمح لهن بالمشاركة والتعبير عن أنفسهن ورؤيتهن لمختلف القضايا والأفكار الى جانب ما تمدهن به هذه المنتديات من معرفة وثقافة وفرصة للالتقاء بالرموز الثقافية بشخصياتهم الحقيقية، فعززت دور المرأة وحاجتها إلى محتوى فكرى أدبي يتوافق مع تطلعات المرأة العصرية والمشاركة الثقافية. ويشكل حضور العنصر النسائي في المنتديات الثقافية خير مثال على الحاجة الماسة إلى منافذ متاحة لتعبر عن المرأة وفكرها.
المنتديات الثقافية بين السلبية والإيجابية
تراوحت المنتديات في مستوياتها بين السلب والإيجاب ولم تحسم لصالح أي من هذه الاتجاهات، فهي قائمة بواقعها ويمكن إيجاز بعض النقاط الإيجابية والسلبية في التالي:
أبرز الإيجابيات تتمثل في:
وفرت للأدباء من كتاب وشعراء ونقاد إمكانية نشر نتاجهم الأدبي للمتلقين والى كل العالم بصورة لم تكن لتتحقق لهم من قبل عبر الصحف الورقية دون الحاجة إلى القلق على ألا يصل صوته إلى أكبر شريحة ممكنة من القراء أو انتظار صدور الملاحق الورقية.
أن المنتديات خلقت مساحة لتداول الأفكار والدفاع عنها وخوض معارك أدبية حوارية من أجلها.
ساعدت الأفراد المثقفين من شعراء وكتاب ونقاد على التعرف إلى أشخاص يقاربونهم في الميول والاهتمامات المشتركة.
تحرر ذهنيات الكتاب من هاجس الرقابة لما تسبب فيه رقيب المقص من إقصاء الكثير من النصوص والأفكار.
لعبت المنتديات دوراً في إبراز شريحة من المبدعين المهمشين في كافة المجالات من أدب وشعر ونقد وفن.
تنمية حس المبادرة والحوار والاستماع إلى الرأي الآخر وتعزيز مهارات الكتابة الأدبية وفن الحوار.
التسليم بحقيقة أن سلوك الأفراد داخل المنتديات وردود أفعالهم تختلف من منتدى لآخر ومن المنتديات عن الحياة في الواقع اليومي.
أنه لا ينبغي وضع جميع المنتديات الثقافية في السلة نفسها، فهناك منتديات جادة ومتقدمه ثقافياً وبعضها بمستويات أقل.
تميزت المنتديات الثقافية أن هناك منتديات قائمة يشرف عليها مثقفون لهم أسماء مؤثرة ولهم خبرتهم الأدبية الطويلة.
أبرز النقاط السلبية تتلخص في:
أن المنتديات أعادت صياغة الواقع إلا أنه كما لكل متغير منطلقاته له أيضاً متغيراته، فبقدر ما خلقت المنتديات الثقافية حراكاً فعلياً في المشهد الثقافي فإن هناك جوانب أخرى تؤثر وتتأثر، فمن سلبيات المنتديات أنها كيانات مجتمعية لا يمكن تأطيرها والسيطرة عليها، وهذا يخلق غياباً للوعي الأخلاقي وسوء استخدام البعض لها.
تباين مستوى المواضيع والمواد الثقافية والأدبية للمنتديات الثقافية من حيث رصانتها، وعدم توفر الشروط الإبداعية في معظم المواد المنشورة وافتقارها للمعايير الفنية مع تأرجح مستوى بعض موادها الأدبية.
اعتماد بعض المشرفين والمراقبين على مبدأ المحاباة والمحسوبية في نشر بعض المواد الأدبية بالرغم من معرفتهم لبساطة وسطحية بعض المواد المنشورة.
تكرار بعض الأسماء في المنتديات نفسها وتراجع أقلامها وأسماء كتاب آخرين مع ملاحظة تكرار نشر المادة المنشورة نفسها بعد يومٍ واحدٍ أو في اليوم نفسه في منتديات ثقافية أخرى مما يؤثر سلباً على مكانة المنتدى ثقافياً والى فقدان مصداقيته كواجهة ثقافية تقوم بمهمة ثقافية عبر نقلها لجوانب من القيم والمضامين.
ندرة الحوارات الثقافية وضعف حضورها والمشاركة فيها.
عدم مناقشة قضايا ثقافية، أو إعداد محاور ثقافية ترتقي بالمشهد الثقافي أو أية مسائل ثقافية حيوية أخرى تستلزم رأي النخب المثقفة وإبداء رأيهم بشأن تلك المحاور المطروحة في الساحة الثقافية.
تناقض المفاهيم ما بين المجتمع الرقمي والمجتمع الواقعي سبباً ارتباكاً وأثراً سلبياً داخل المنتديات.
أن الكثير من المبادئ التي آمن بها أصحابها ودافعوا عنها عبر المنتديات تخلوا عنها على أرض الواقع فظهرت فارغة من مضمونها وفكرتها.
الكثير من النقاشات توقفت بدون نتائج بسبب أنه تدور في دائرة مغلقة ولم تخرج إلى أفق مغاير.
ضياع الكثير من الوقت حسب تجربة رواد المنتديات الذين صرحوا بأن المنتديات الإلكترونية أخذت من وقتهم المفترض أن يقضونه في القراءة أو الدراسة.
اضطرار بعض أعضاء المنتديات إلى أن يكونوا متناقضين حيث يقومون بكتابة آراء أو مواضيع غير مقتنعين بها وتتناقض مع شخصياتهم ليرضوا أصدقاءهم بالمنتديات حتى يستمروا في صداقتهم.
أن العلاقات بين مجموعات المنتديات لا تكون علاقات إنسانية حقيقية بل مجرد تواصل إلكتروني.
سلبية الكثير من الأسماء المستعارة باسم الحرية التي يوفرها المنتدى مما يساء استخدامها.
تتيح المنتديات الفرصة للمبتدئين ليعرضوا إنتاجهم وفي الوقت نفسه تضللهم حين توهمهم أن موادهم المنشورة جيدة وفي الحقيقة لا يكون الأمر كذلك.
ضياع الحقوق الفكرية في حال النشر في المنتديات الثقافية الإلكترونية.
غياب الإطار القانوني والمهني الذي ينظم عمل المنتديات ويحفظ حقوقهم.
رؤية المنتديات بين الواقع والمأمول:
المنتديات الثقافية مساحة إلكترونية وجدت لتكون حرة وهي بحاجة إلى صيغ بنائية جديدة للتحرر النسبي من هيمنة الفئوية والمحسوبية أو الاتجاهات المتطرفة في أي فكر بحد ذاته. كما أنها بحاجة إلى معايير قيمية وفكرية شفافة والتعاطي معها بأهمية بالغة من حيث اختيار الأكفاء الذين لديهم الخبرة للإشراف الثقافي وأن تكون بمستوى من الرقي والتميز لكي تستقطب كبار الأسماء والأقلام الأدبية.
هناك نقاط أساسية يمكن بلورتها بشكل أوسع لتفعيل دور المنتديات الثقافية تتمثل الحرية الفكرية، وتوسيع دائرة الخصوصية، تأسيس أخلاقيات التعاطي مع فضاء الثقافات الإلكترونية.
إن القائمين على المنتديات ومشرفيها يقع عليهم مسئولية تحقيق الدور الفاعل في نقل ونشر الثقافة الإلكترونية التي أصبحت جزءاً رئيسياً من ثقافة المجتمع وعدم تسطيح الوعي وحصر المنتديات في نشر الآراء والأفكار التي لا تضيف جديداً للحياة الثقافية في مجتمعنا.
تبدأ مسئوليتهم من الاستفادة من المنتديات وتوسيع الأفق الثقافي بين مجتمع المنتديات المنوع فكرياً وعلمياً وأدبياً واجتماعياً وإشاعة مفهوم الثقافة المتعددة مع الحفاظ على الهوية والثوابت ومنحها البعد الإنساني والثقافي في زمن عولمة الثقافة. على مشرفي المنتديات الثقافية أيضاً الاتسام بروح الموضوعية في منتدياتهم وإشاعة روح الفكر الحر وقبول النقد والنهوض بواقع منتدياتهم نحو الأفضل.
التجربة داخل المنتديات لم تكتمل بعد ولكنه حان موعد مراجعتها وتطويرها وتقويمها. لا نريد أن ننتظر نضوج التجربة حتى نقيمها. ولا نريد الوقوف أمام انتشارها أو تثبيطها، فكل عصر يخلق أدواته والمنتديات أحد أدوات عصر المعلومات وعصر السيد المارد «قوقل»، إذ ينبغي مواكبتها واستغلالها إيجابياً.
هناك نقص كبير على مستوى الدراسات الإحصائية التي تعالج أسباب ظاهرة المنتديات بكل مضامينها ودلالتها وكيفيه تقويمها وتوظيفها لمواكبة السياق الثقافي الإلكتروني والارتقاء بمستوى المنتديات الثقافية الحالية.
هناك ضرورة معرفية لدفع مسار المنتديات وجعلها تقوم بالدور المنوط بها كما ينبغي للتأثير في حركة الحداثة والتغيير التي يمر بها المجتمع السعودي وتكاتف الجهود لكي تكون تلك المنتديات متميزة من حيث المحتوى والرؤية، وأن تتوفر فيها المقومات الأساسية من أجل تحقيق أهدافها.
-