كان الناس فيما مضى من الزمان متآخين؛ يغفر بعضهم زلة بعض، ويتأول أحدهم للآخر ويعذره، وكانت نواياهم حسنة وعلاقاتهم حميمة بقدر تلاصق منازلهم ودنو ارتفاع جدرانها، بل وندرة إغلاق أبوابها.
لم يطب لأقوام تلك العفوية والألفة والتسامح وحب القريب والبعيد، فسعوا إلى إفساد الطوية، وتقديم التأويل السيء على الحسن، وزرع الفتنة بين المتجاورين، والشقاق بين أفراد الأسرة الواحدة في البيت الكبير، أو عند الزيارات العائلية. لم تهنأ أنفسهم إلا بعد أن تحطمت إنسانية الفرد، وأصبح يشك في كل من حوله، ويضاعف الحواجز والحجب، ويعلي الأسوار، ويسود النوافذ، ويكبّر الصغير، ويزرع فيه بذرة الشك وسوء الظن.
وللمفارقة سُميت تلك الحقبة الناصعة من تاريخ المجتمع «بفترة الجهل»، في حين حازت سمات الشك والكراهية والنفور من الطبع الإنساني السليقي على أعلى درجات التقدير؛ فأصحاب تلك السمات قد طبقوا مبادئ الاستيفاء، وأطبقوا على قلوب العامة، وقبل ذلك قلوب الصغار، يحولونها إلى خطوط مستقيمة، لتصبح عقول أولئك وهؤلاء تشتغل بنظام المركب الثنائي (binary system) في نقلة قلّ أن توجد في التاريخ.
وكانت الأرض فيما مضى من العقود في عافية وخير، تلتهم مسطحات الغابات والمناطق الزراعية الوفيرة كل ما تنفثه المصانع ومحركات النقل أو الحرث وغيرهما من غازات سامة للإنسان وموارد الطبيعة.
فلم يطب لعتاة التخطيط الإستراتيجي في كلا المعسكرين (الرأسمالي والاشتراكي) ذلك التكامل البيئي الطبيعي. فسعوا إلى تدمير تلك الآليات من خلال إصرارهم على التوسع في استهلاك موارد الطبيعة بشكل جائر، وتقديم المصالح الاقتصادية على تجنب المخاطر البيئية. فوصلت الأرض بفضلهم، وفضل تغاضي الناس - باستثناء فئات قليلة بقيت مجال تندر وتهكم مستمرين عند كثير من المطالبين باستمرار صعود النمو الاقتصادي – إلى وضع لم تعد العودة عنه ممكنة، ولم يعد التنبؤ بالمصير الذي يؤول إليه بالأمر الصعب حتى على أنصاف العارفين، مما أصبح يُعرف «بالاحتباس الحراري».
فكم نحن ظلمة؟! نتنكّر لمن يريد أن يكسب كثيراً، ويشغّل كثيراً من العاطلين، ويحقق مع غيره نموا اقتصادياً متصاعداً؟ كما تنكّرنا لمن يريد أن يخرجنا من «الجهل» الذي انغمسنا فيه منذ بدء الإسلام حتى ظهر البنا وأقرانه، وتسلل رسله بين ظهرانينا؛ يقلبون مفاهيمنا، ويسخرون من عقولنا، ويحطمون أحلامنا بحياة هانئة ومستقرة. فأخذوا يزرعون الحرام أمام كل برعم، ويسمدون الهواء بغازات، قلّ أن يتمكن مستنشقوها من التخلص من ذلك الاحتباس.
فلماذا لا نتحمل ذلك الاحتباس الحراري من أجل تحفيز الاقتصاد العالمي، واستمرار التقدم العلمي، وتوفير أنواع الغذاء المختلفة، وأشكال الترفيه المتعددة؟ ولا بأس بعد ذلك من أن تتمزق طبقات الأوزون، ويصاب الإنسان بالأمراض الغريبة والخطيرة، وتنقرض بعض الكائنات الحية، وترتفع درجات الحرارة على الأرض. فكل ذلك يهون في سبيل الاقتصاد.
ولماذا لا نتحمل ذلك الاحتباس الحرامي من أجل تنقية نفوسنا الخبيثة من الرجس الذي أصبحنا مجبولين عليه، حتى قيّض الله لنا تلك الفئة المخلصة التي لا يهمها الظاهر، ولا تعتقد بحل شيء مختلف فيه، ولا يرتاح لها بال إلا أن ضمنت أن النفوس متنافرة؟ ولا بأس في أن تتضخم الأرصدة المالية، ويصبح الخطاب الديني ضحلاً؛ يهتم بسفاسف الأمور، ويعتدي على كرامة الإنسان، ويقهر الفئات الضعيفة من الناس، ويصادر الحقوق. فكل ذلك يهون في سبيل رفعة الأمة التي تتمثل في أشخاص، والأشخاص في نتف من القول لم تبن علماً ولن تحفظ لنا تاريخاً. والتاريخ لا يرحم المستهترين بكراماتهم وحقوقهم، ولا البخلاء في استخدام عقولهم. طبتم ولا طاب لهم مقام!
-
+
الرياض