-1-
يساورني منذ فترة لا أظنها قصيرة إحساس بأن غالب المثقفين، أو إن شئت المتعلمين، في بلادي يفهمون علم الإعلام، أو علم الاتصال الجماهيري بالتعبير العلمي الأدق، بأنه -في أفضل الأحوال- نمط من التدريب المهني؛ يتعلم فيه الدارس كيف يفرق بين الخبر والمقال، وبماذا يمتاز الحديث الصحافي عن التحقيق، وبأي صورة يأتي الإلقاء الإذاعي الصحيح، والتصوير التلفزيوني الملائم، وكيف تبلغ الصورة الصحافية درجة الإضافة النافعة.
يبتعد هذا الفهم عن إدراك ولو بالحد الأدنى للخلفية الثقافية الغزيرة لهذا العلم، ولمداخله النظرية العميقة. إن علم الاتصال الجماهيري ليس مجرد تفكير في الانتفاع بالوسيلة، إنه تفكير أعمق في الإنسان؛ في عقله ومشاعره وتصوراته. إنه محاولات مكررة ومجهدة -وأنا أراها ممتعة- لإدراك معنى انحياز وسائل الاتصال، وآثار هذا الانحياز على العملية الاتصالية بعمومها، وعلى عناصرها؛ كلٌ على حدة. وهو كذلك جهد علمي منظم لفهم العلاقة الشائكة بين السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وفهم المحاولة المستديمة لجعل «الإعلام» و»الرقابة» ضمن علاقة غير التناقض. وهو كذلك مسعى علمي منضبط لفهم وتحليل الظاهرة الاتصالية الرئيسة، والظواهر الفرعية؛ المصاحبة والناتجة. وهو أيضاً جهد معرفي في تحليل الوظيفة والدور لعملية الاتصال الجماهيري، ولكل عنصر ضمن العملية.
وبعد، فإن هذا الفهم الذي أعده غير منصف لهذا العلم يتحمل مسئوليته الأساتذة والزملاء من طلاب علم الاتصال الجماهيري، وحيث إني أحدهم فإني أتحمل معهم قسطي من هذا الخلل. هذه الكتابة تأتي تعبيراً رمزياً عن رغبتي في سداد شيء من هذا القسط.
-2-
تقبض على الكاتب في محاولة تجسير الفجوة بين الفهم العام لعلم الاتصال الجماهيري، وواقعه، معضلات ثلاث. تتعلق الأولى بالمسافة الملحوظة بين الفهم النظري لعلم الاتصال الجماهيري والتطبيق العملي في وسائل الإعلام. وقد ولدت في هذه المسافة مشكلتان فرعيتان؛ الأولى هي الخلط لدى غير المتخصص بين الأمرين. وبما أن متابعة الممارسة والاستشهاد بها أهون من مطالعة البحوث ومراجعة النظريات صارت الممارسة شاهداً على العلم؛ فيما الصواب -عندي- عكس هذا. المشكلة الفرعية الثانية هي الاستقلال التام بينهما لدى المتخصص، الذي أصبح بعقلين؛ أحدهما بحثي علمي، والثاني عملي صحافي. فهو إذن علمي ليجتاز في السياق الجامعي، وهو عملي ليتقدم في الميدان المهني. هذا التواطؤ العفوي بين غير المتخصص والمتخصص أدى إلى أن تكون القاعدة في بلادنا أن ما للجامعة للجامعة، وما للصحيفة للصحيفة.
المعضلة الثانية ترتبط بحداثة علم الاتصال الجماهيري النسبية، أي قياساً إلى أكثر العلوم الإنسانية. أفرزت هذه الحداثة نتائج عدة، يعنيني هنا الإشارة إلى إحداها؛ وهي الاعتماد المكثف على الانتفاع بالحصيلة النظرية في جملة من العلوم، مثل علوم الاجتماع والنفس والإدارة والاقتصاد والسياسة، بل وعلوم الهندسة والحاسب الآلي. قادت هذه النتيجة أحياناً -أظنها كثيرة- إلى ارتباك في تمييز علم الاتصال الجماهيري عن سواه، وأدت إلى الربط بين مقدمة انعدام الأصالة، ونتيجة تواضع مبرر الوجود -ما لم أقل انعدامه-.
أدت هاتان المعضلتان إلى الثالثة، وهي جعل من يحاول تفكيك هذا الوضع وإعادة بنائه يجد نفسه في مواجهة حرج في أن يتقدم للقارئ العام -غير المتخصص- بنص مفهوم ومفيد. إذ يجد المرء نفسه بين خيارين يوشك كل منهما أن يكون ممتنعاً. أما الأول فالكتابة العلمية الدقيقة، والتي تأتي بحكم طبيعتها ثقيلة ومشكلة، وتحتاج إلى قارئ يجتهد في الفهم إلى حد مراجعة شيء غير قليل من التراث العلمي الذي ترتكز إليه هذه الكتابة، أي أن تكون هذه الكتابة بداية لا أكثر. وهذا الاجتهاد يندر وجوده في غير قارئ ألزم نفسه بطلب علم الاتصال الجماهيري. كما تحتاج -الكتابة العلمية الدقيقة- إلى وسيط نشر يقبل بأن ينشر نصاً تفيد كل الإشارات المتاحة أن قرّاءه سيكونون على قلة لا تغري بالنشر. وقبل ذلك تحتاج من الكاتب إلى وعي صحيح، وفهم مستوعب، وقدرة على التحليل، وصبر على الاستفاضة اللازمة، ومهارة في صنع الإيجاز الضروري. وأنا هنا أقر بأني على شك في توفر أي من هذه الخصائص في أخيكم، وهو ما يزيد الأمر كله تعقيداً، ويزيدني فيه زهداً.
وأما الخيار الثاني فهو التخفف من الكتابة العلمية، والتسامح في عدم الدقة، والانحياز إلى التيسير على القارئ. وهو خيار سينتهي فيما أظن إلى كتابة تتسم بالخفة، وإلى محاولة يغلب على نفعها ضررها.
-3-
على الرغم -أولاً- من أن السبيل الأيسر لتجسير هذه الفجوة هي مشاركة المتخصصين في ميادين العمل العامة؛ خارج الأقسام الأكاديمية، والمؤتمرات العلمية. وعلى الرغم -ثانياً- من أن هذه المشاركة قائمة بالفعل، وعلى نطاق زمني وجغرافي ممتد وواسع. أقول على الرغم من هذين إلا أن النتيجة العامة في نظري مازالت تشير إلى أن الفهم العام لعلم الاتصال الجماهيري يفتقد للصحة. ومرد هذا إلى أن مساهمة المتخصصين جاءت -فيما عدا المسار الرئيس*- على صورتين غالباً؛ الأولى هي المساهمة في جهد العلاقات العامة في المؤسسات العامة والخاصة. سواء كانت المساهمة على صعيد الاستشارة المؤقتة، أو الدائمة، أو على صعيد الانخراط المباشر في العمل التنفيذي. ولم تؤدِ هذه المساهمة إلى تطوير الوعي العام بعلم الاتصال الجماهيري لأن عمل العلاقات العامة في المؤسسات المحلية أدنى إلى أعمال السكرتارية منه إلى الاتصال الجماهيري. إذ يتراجع الاجتهاد النقدي والمحاولة التحليلية لصالح مهمات الجمع والعرض ونقل الرسائل التي ترغب إدارة المؤسسة في نقلها، ويزداد الأمر سوأ إذ يتم هذا النقل وفق صيغة تقررها الإدارة العليا لا مسئولو العلاقات العامة، فتتحول العلاقات العامة تطبيقياً من قناة اتصال بين إدارة المؤسسة وجمهورها -الداخلي والخارجي- إلى قناة إيصال ما تقرره الإدارة العليا. فتغدو إدارة العلاقات العامة وحدة إرسال -وفي حالات أقل، واستقبال- بدلاً من أن تكون وحدة تفكير ونظر تستعمل الدرس والتحليل والتقويم المبني على الأسس النظرية للاتصال الجماهيري. في حالة مثل هذه تذوب مبررات الاعتماد على المتخصصين في مجال العلاقات العامة، ويصبح لا فضل لمتخصص على غيره. والنتيجة التي تعنيني هنا هي تراجع قيمة علم الاتصال الجماهيري في ميدان يدار بهذه الصورة.
وإذ تأتي هذه الكتابة في سياق ابتكار السؤال، لا الإجابة، فإن السؤال هنا: هل المسافة بين علم الاتصال الجماهيري والتطبيق المحلي في مجال العلاقات العامة حاصل خلل في التطبيق أم في النظرية؟. أليس الوضع الطبيعي أن تعمل العلاقات العامة تحت إشراف الإدارة العليا؟ وأليس الوضع الطبيعي أن تكون العلاقات العامة -في أفضل الأحوال- مستشاراً للإدارة؟. فإن كان الجواب بلى إنه كذلك، فإن التصويب المنشود ينبغي أن يكون في إحالة العلاقات العامة، والإعلان، إلى تخصص علمي أكثر ملائمة؛ الإدارة أو التسويق، وان يأخذ هذا العلم من الاتصال الجماهيري بتعلم مهارات الاتصال التطبيقية. فاستمرار هذين الحقلين فروعاً لعلم الاتصال الجماهيري يشوش على صورة العلم ذي الطابع التحليلي والنقدي.
وإن كان الجواب بنعم ليس هذا الوضع طبيعياً. فهذا يقتضي إعادة صياغة الجهد التطبيقي وبالتالي العلمي في العلاقات العامة -والإعلان-. لابد من استقلال وحدات العلاقات العامة، وتحويل نظر الإدارة إلى جهد هذه الوحدات من خطوة وظيفية إلى وظيفة منفصلة، تساهم مع الإدارة في بناء المؤسسة، وخدمة المجتمع.
الصورة الثانية التي ساهم بها متخصصو الاتصال الجماهيري في ميادين العمل العامة، تمثلت في نشر الرأي في وسائل الإعلام، من خلال المشاركة المنتظمة وغيرها، مقالا وتعليقا. ومن خلال متابعتي التي لا تقوم على رصد علمي دقيق، أقول إن هذه المساهمة قام بها المتخصصون بوصفهم مثقفون أكثر منهم شيئاً آخر. إذ تفرغوا في حالات كثيرة لظهور يعكس آرائهم الشخصية واتجاهاتهم الفكرية. وأرجو أن يكون واضحاً أن هذا بحد ذاته ليس محل مؤاخذة عندي، فهم أفراد في المجتمع يمارسون حقهم الطبيعي في الاعتقاد والتعبير. المؤاخذة تأتي في أنهم تخلوا غالباً عن إبراز خلفياتهم العلمية في مناقشة الظواهر العامة بأدوات علم الاتصال الجماهيري. كنت أرجو -ولا أزال- أن يستعملوا حصيلتهم من علم الاتصال الجماهيري لتحليل الممارسات الاتصالية الكثيفة التي تغشى سلوك الناس، هنا وفي بقية العالم.
(*) أقصد بالمسار الرئيس الالتحاق بالعمل المهني في مؤسسات الصحافة والإذاعة والتلفزيون، وهو أمر أبدأ به المقالة الثانية، إن شاء الله.
-
+
الرياض