Culture Magazine Thursday  05/05/2011 G Issue 340
فضاءات
الخميس 2 ,جمادى الثانية 1432   العدد  340
 
مساقات
مِصْر - مصريم!
أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي
-

كنّا قديمًا حينما نقول «مِصْر» نرى أننا نعني مِصْر، المحروسة، المعروفة تاريخيًّا، أو بلاد القِبْط: Egypt. مِصْر الجَمال- بفتح الجيم، لا «جِمال» ميدان التحرير!؛ مِصْر الحريّة والثقافة والقِيَم؛ أُمّ الدنيا، التي يبدو أنها عثرتْ على أمومتها وأولادها مجدَّدًا منذ 25 ياناير 2011. إلاّ أنه ظهر مؤخّرًا مَن يدّعي أن مِصْر هي (مصريم)، التي لا ندري أين هي؟ وأن مِصْر التي نعرفها ليست بمِصْر، ولا ببلاد الفراعنة، وإنما مِصْر مكان يقع في سراة الحجاز، هكذا ببساطة! ولتذهب كلّ الآثار، والأهرامات، والمسلاّت، والمدافن، والتماثيل، والنقوش، والكتابات، والبرديّات، أدراج الرياح؛ فهي لا تدلّ على شيء، لا من حضارة مِصْر ولا من الفراعنة، بدِينهم وسِحرهم وحضارتهم وقصصهم في القرآن وغير القرآن! ويحدّد بعضُهم(1) مِصْر الحقيقيّة - لا المزوّرة - بأنها «غربيّ بلاد زهران»، وأن «عشيرة المصريّين» - هكذا! - كانت هناك! ومن ثَمَّ فإن بني إسرائيل كانوا يسرحون ويمرحون في تلك المنطقة، مكذِّبًا أتباعُ تلك المزاعم كلَّ التاريخ، وكُتُبَ الدِّيانات السماويّة، وما فَهِمَه أتباعها وتوارثوه جيلاً إثر جيل، وإنْ كانوا في الوقت نفسه قد يستعينون بتلك المصادر في مواطن أخرى، بحسب الحاجة، وحينما تخدم أغراضهم، في مراوغاتٍ وتأويلاتٍ، لا يصحّ معها في الأذهان شيء.

بل ستجد من يذهب - بكلّ ثقة - إلى أن كلّ التاريخ الدِّينيّ وجميع الأنبياء، بل آدم نفسه قد خُلِق في جبال السراة! أمّا كيف؟ فقد خرج كما يقول من بيضة - لا ندري مَن أو ما الذي باضها؟! - أو أنه نَبَتَ في تلك الجبال كالحشائش، كما أن جَنّة عدن (الفردوس) كانت بين تلك الجبال!(2)... ما شاء الله تبارك الله!

عجيبة هذه الثقة في التخرّص الغيبيّ، المغاير لما جاء به القرآن - أو الكُتُب الدِّينيّة أو التاريخيّة السابقة - عن خَلْق آدم، في مشروعٍ للاستدراك عليها، بلا منهاج ولا برهان! تُرى مِن أين تنزّلت على هؤلاء هذه التفصيلات الغيبيّة الغريبة، التي من المؤكّد أنه لا يمكن إثباتها عِلْميًّا، ولا سيما ما يتعلّق بخَلْق آدم وغير آدم؟ على الرغم من قوله تعالى: {مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ، وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً}.»(3) بل الآية الأخرى، التي جاءت ردًّا صريحًا على هذا الطرح قبل نحو 1432سنة، مبيّنة (بدء خلق الإنسان)، في قوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ}(4)! ولم تَرِد إشارة قط إلى تلك البيضة التي سبقت الدجاجة الآدميّة! وعليه فإن مِصْر، ومملكة فرعون - واسمه الحقيقي كما قيل حسب تلك المزاعم: قابوس بن معاوية! - وكذلك مملكة سليمان، كانتا في ما يسمّى اليوم: (أبها)، أو ربما «زحلطتا» إلى: (الباحة)!.. إلى الآن لم يتحدّد الموقع بالضبط!

والمرء يحار إزاء هذه المغامرات الطافحة في فضائنا العربيّ: أهي تنطلق بين وقتٍ وآخر بحثًا مخلصًا عن الحقيقة، أم بحوافز أيديلوجيّة قوميّة أو دِينيّة، أم لمآرب أخرى، أهونها: حُبّ الإثارة، ولفت الأنظار، وطلب الشهرة؟ مع ما في الأمر ها هنا ممّا هو أخطر من ذلك كلّه، من العبث (المشبوه) بتاريخ العرب وأوطانهم باسم البحث، وبما يحقّق للطامعين أطماعًا فوق أطماعهم. والمفارقة أن يَصدر هذا اليومَ عمّن يُعلن تكذيب التوراة، والإخلاص للأُمّة وتراثها، مردِّدًا أن تاريخ الأنبياء وجغرافيا قصصهم مِن تزوير التوراة، وأن الخَبَر اليقين هو ما جاء في النصّ القرآني! لكن هل رأيتم من يزعم الاستدلال بالقرآن ثم يلوي نصوصه لتتّفق مع تهويماته وشطحات ذهنه، بل قد لا يتورّع عن تكذّيب صريح ما ورد في القرآن من قصص، كما هو الحال فيما يتعلّق بقصة خلق آدم، أو البحر الذي ضربه موسى بعصاه فانفلق ثم أغرق الله فيه فرعون وجنوده؟! إن ذلك لشيءٌ عجاب، دِيانةً، وعقلاً، وزعمًا، واستدلالاً! وهو يفعل ذلك مع عدم تأهيلٍ ظاهرٍ لولوج هذا الميدان برمّته، ولا توثيقٍ علميٍّ أو استنادٍ معرفيّ. بل هو لا يكتفي باقتحام ميدان واحد، بل ميادين علميّة متعدّدة، من عِلْم اللغة، والأدب، وعِلْم التاريخ، وعِلْم الجغرافيا، والأنثروبولوجيا، والبيولوجيا وتطوّر الجينات، وعِلْم التفسير، وغيرها، يخبط فيها جميعها دفعة واحدة خبط عشواء، دون احترام عِلْمٍ أو تخصّص.

وأحسب أن ذلك العبث لم يسبق له في التاريخ نظير، حتى في ما يُنسب إلى بني إسرائيل. وذلك ما تولّتْ كبرى إحدى الجمعيّات العربيّة باسم «التجديد الثقافيّ والاجتماعيّ»، حيث يرد: «إن النظر في التراث العربيّ القديم يُثبت أن (آدم الإنسان العاقل الأوّل) قد تولّد بَشَرًا من بويضة في أرض السراة من شبه الجزيرة العربيّة وكذلك حواء وبقية الآدميّين. وعاش البشر الذين تخلّقوا وقتئذٍ هَمَجًا بعيدين عن مفهوم الإنسانيّة وقِيَمها، إلاّ أن آدم الإنسان العاقل الأوّل قَدَّرت له المشيئة الربانيّة أن يدخل الجَنَّة (الجَنَّة الأرضيّة)، وهناك أُودعتْ روح آدم وعقله ليكون مُهيّأ لحمل الأمانة الربّانيّة، وهناك عُلِّم آدم الأسماء كلّها، وبقي فيها حتى معصيته التي أدّت إلى خروجه من الجَنّة. فآدم خرج في هذه الأرض ليبثّ علومه التي تَزَوَّدَ بها في الجَنّة، ولولا التخليق في جينات آدم العاقل لما أمكنه أن يعرف أسرار العلوم والفِكْر، ولما كان لديه الاستعداد لإدراك هذه اللغة التي أنجبت هذا التراث العربيّ العظيم!» فالتراث الإنسانيّ كلّه تراث عربيّ، إذن! ولا ندري ما هذا «التراث العربيّ القديم» الذي يكشف كلّ هذه الأسرار، بل «يُثبت» - بما لا يدع مجالاً للشكّ - كلّ هذه الشؤون الغيبيّة العظيمة، وهكذا بكلّ يُسر؟! وكيف يغيب عن كاتب هذا القول أن اللغة العربيّة في أطوارها القديمة، أي قبل خمسة قرون من البعثة النبويّة أو أقلّ من ذلك، لا نستطيع - نحن العرب اليوم - فهم طلاسمها، وإنما يترجمها ذوو الاختصاص لمقاربة بعض دلالاتها، كما تدلّ على ذلك الآثار الثموديّة أو الصفويّة أو الحِمْيَريّة، ممّا يعني أن ما يُسمّى العربيّة إنما تطوّر كسائر لغات البَشَر الأخرى، وليس بأزليٍّ ولا توقيفيّ! بل إن الجنس العربيّ نفسه الذي تُنسب إليه اللغة، ليس أزليًّا بطبيعة الحال، ولا الجزيرة العربيّة كانت أزليّة، فكيف تُنسب اللغة الإنسانيّة عن بكرة أبيها وأمّها إلى جنسٍ بَشَريّ ناشئ في حقبةٍ متأخّرة من التاريخ؟! إنها بدهيّات، لا تحتاج إلى براهين، وقد كان بالإمكان - حتى لدى المصدّق بالتوقيفيّة، أو بلغةٍ أُمٍّ أولى للبَشَر، أو بأن العربيّة هي أقرب اللغات الساميّة إلى اللغة التي تفرّعت عنها تلك اللغات - أن لا يَصْدَع بمثل هذا القول الأخرق من تسمية تلك اللغة الأُمّ باسم جنسٍ بَشَريّ، كالقول إن «اللغة العربيّة هي أصل اللغات»، مع العِلْم أن الجنس العربيإنما نشأ كما نشأ غيره، وتطوّرت لغته كما تطوّرت لغات الأجناس البَشَريّة الأخرى في العالم، واقترضتْ من غيرها من اللغات وأقرضت، وإنما قصارى ما يصحّ قوله - بعيدًا عن الغُلُوّ في التعصّب أو اللَّغو والإسراف في الأوهام - إن العربيّة حافظت على أصولٍ اندثرت من بعض اللغات الساميّة، لعوامل من الاستقرار والعزلة النسبيّة(5).

السؤال هنا: تُرى أين المتخصّصون في عِلْم التاريخ في المملكة، أو في الجزيرة العربية قاطبة، عن تلك القضايا المثارة؟ أتراهم لا يدرون عنها، وتلك مصيبة، أم هم يدرون لكنهم غارقون في ذَهَبِ الصمت، فالمصيبة أعظم؟! أين الحِراك الفكريّ، والتفاعل العِلْمي مع ما تمور به الساحات الثقافيّة العربيّة، في عصر فاضت فيه براكين المعلومات والطروحات، أم أن السادة المؤرّخين ما زالوا - وسيظلّون - قابعين في ردهات التاريخ الخَرِبَة، مشغولين بتحليل موقعة صفّين والجَمَل وصراع عليّ ومعاوية، سامدين هكذا في جدليّات الماضي حتى يرث الله الأرض ومن عليها؟! ولماذا يتركون حبلها على غاربها لكل هاوٍ، أو مُغْرضٍ، أو جاهلٍ، أو مريضٍ، أو ذي لَوثة، أو مهووس بترويج الغرائب، دونما طرحٍ منهجيٍّ بديل، يضع النقاط على الحروف، أيًّا ما كانت تلك النقاط وتلك الحروف، سلبًا أو إيجابًا، تكذيبًا أو تصديقًا؛ فالحقّ أحقّ أن يتّبع، لكن كلمة الحقّ حينما تغيب تترك العقول في مهبّ الأباطيل والبلابل ومسارحها اللا محدودة.

رحم الله الشيخ حمد الجاسر الذي كان يتصدّى لمثل هذا التطاول على العِلْم والبحث والتاريخ، أولاً بأوّل، كما فعل مع كمال الصليبي، مثلاً، منذ عِقْدين من السنوات، لما جاء في كتابه «خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل». يفعل ذلك لتكون له كلمته، ويكون له موقفه، بقطع النظر عن منتهى الاحتمالات النسبيّة لقيمتي الصواب والخطأ، وإلى كفّة مَن يميل بها الميزان. وذلك هو المؤرِّخ النابه، الذي يستشعر ضميرُه مسؤوليّته التاريخيّة.

إن بعض الصمت جُبنٌ أو خيانة!

****

(1) انظر: داوود، أحمد، (2003)، تاريخ سوريا الحضاري القديم - تصحيح وتحرير، (دمشق: دار الصفى)، 677.

(2) وقبل هؤلاء زعم أحد الباحثين المحترمين أن البَشَر كانوا قبل الناس، وأن الله خلق آدم بَشَرًا أولاً، ثم اصطفى من سلالته آدم العاقل النبيّ، ليُصبح إنساناً في مرحلة لاحقة. متأوّلاً آياتٍ قرآنيّة بما يتماشى مع بعض النظريّات في التطوّر من جهة، ومن جهةٍ أخرى لينفي - حسب قوله - التصوّر التراثيّ عن الخَلْق بحُجّة أن مصادر ذلك التصوّر التراثيّ كانت إسرائيليّة. وكأن كل الإسرائيليّات باطلة أو أسطوريّة! وهو تكلّفٌ لا يُسمن ولا يُغني، وفضولٌ بحثيّ في (عالم الغيب) - استمرّ 23 عامًا، كما ذكر صاحبه - عِوَضًا عن البحث المفيد في (عالم الشهادة)، ممّا ينفع الناس ويمكث في الأرض! (انظر: شاهين، عبد الصبور، (1998)، أبي آدم: قصّة الخليقة بين الأسطورة والحقيقة).

(3) سورة الكهف: 51.

(4) سورة السجدة: 7.

(5) ولقد دشّنت «جمعية التجديد الثقافيّة والاجتماعيّة» في البحرين مشروعًا لهذا الغرض، عام 2009، حافلاً بهذه الأطروحات العجيبة، معلَنًا على شبكة «الإنترنت» باسم (مشروع السراة) - إشارة إلى جبال السراة في السعودية - وهي تشتغل فيه على صناعة الأفلام، ونشر الكتابات والكُتب، من قبيل هذا المذكور أعلاه. انظر موقع الجمعيّة، على الرابط:

http://www.tajdeed.org/article.aspx?id=10532

-

p.alfaify@yahoo.com - الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة