Culture Magazine Thursday  05/05/2011 G Issue 340
فضاءات
الخميس 2 ,جمادى الثانية 1432   العدد  340
 
محمد العلي و «البُعد الآخر» في مقالته القصيرة
علي الدميني
-

1- (المرايا المتشظية - وإعادة البناء)

عبر أكثر من أربعين عاماً استطاع «محمد العلي» أن يؤسس لنهج سياسة في الكتابة، على صعيدي بنية التكوين وأدوات التشكيل، تتمايز بخصوصيتها اللافتة، وتتسم في كل تجلياتها بصدق الكلمة وشرف الموقف، متكئاً في كل ذلك على ما يمتلكه من رؤى تنويرية، وموسوعات معرفية عدة، باذخة الثراء والتجدد.

وإذ يتجلى حضوره في مختلف الحقول الثقافية والاجتماعية والسياسية في بلادنا، باحثاً تنويرياً وشاعراً، وناقداً أدبياً، إلا أننا سنجده، بشكل أكثر تحديداً عبر مقالاته القصيرة في الجريدة، التي جعل منها بوابة للتعبير عن مشاغله بوصفه مثقفاً وطنياً، وعن تطلعاته بوصفه مثقفاً تقدمياً، ضمن أفق تواصله الأثير مع قارئه اليومي.

ويقارب تلك المشاغل وفق ما يمكن تسميته بأسلوب «تحليل الثقافة اليومية»، التي تشمل: «الهمّ اليومي، والظواهر الاجتماعية، والنتاج الأدبي، والمكونات الفكرية المنحدرة من الموروث وتلك المتسربة من الحاضر، والأحداث السياسية الكبرى، وغيرها مما يدخل في تشكيل النسيج الثقافي اليومي في حياة الإنسان، في واقعنا المحلي والعربي على السواء».

وبحسب طبيعة الموضوع أو المادة التي يستمتع بإنتاجها ينتهج أسلوبَيْن في طريقة كتاباته، أولهما: أسلوب الاستطراد والتتابع الذي تجلى في محاضراته ومقالاته المتسلسلة وقصائده الطويلة، أما ثانيهما فهو أسلوب «التكثيف» الذي عبَّرت عنه مقالاته وقصائده القصيرة.

أسلوبه الأول يوظف «المرآة المستوية»، باعتبارها - بحسب توصيفه لها - محايدة، وصادقة، وشفافة حتى العري؛ ليعمل من خلال ما تعكسه من موضوعات وإشكالات، على تعرية شكلانية تماسك الواقع الثقافي، والإسهام في نقده وإعادة بنائه فكرياً وجمالياً.

أما أسلوبه الثاني ـ حين ننظر إلى مجمل مقالاته القصيرة - فإنه يضعنا أمام «مرآة أخرى» تحتفظ بخصائص «المرآة المستوية»، ويضيف إليها خصائص «مرآة البُعد الآخر»، التي تتشكل عبر رؤية فكرية وحضارية تتقاطع وتتحاور مع منظومة قِيَم حضارية وثقافية متطورة، أنجزتها المجتمعات الحضارية المتقدمة عنا؛ فيقوم بمقاربة ثقافتنا وحياتنا على ضوء النظر إليها في تلك المرآة المتعددة الجوانب.

لذلك نرى أن كل نص من مقالاته يعكس جانباً من زوايا مقارباته لموضوعاته، في تعبيرها عن معناها الخاص ولحظتها التاريخية، وفي ترابط جدلها وتناقضها - أحياناً - أو تكاملها مع الأجزاء والقِيَم الأخرى، التي تعكسها وتحللها - عبر الزمن - المرايا المتشظية!

وقد رأيت تسميتها بـ»المرآة المتعددة المستويات»؛ للابتعاد عما يمكن أن يحمله معنى «التشظي» من مدلولات سلبية، ولكنني وجدت في كلام الدكتور عبدالله إبراهيم إيضاحاً جميلاً لمعنى «المتشظية» في هذه التسمية، ينطبق على «العلي» بوصفه كاتباً ومفكِّراً؛ حيث يقول د. إبراهيم في هذا المعنى: «المفكِّر يختلف في ذاته؛ لأنه ينظر في مرآة متشظية؛ فهو في كل مرة يرى شيئاً جديداً من ذاته.. إنه في كل تجربة إنسانية عميقة يكتشف شيئاً من ذاته قد خفي عليه؛ حيث إنه بوصفه مفكراً لا بد أن يكون مستقلاً عن ذاته وعن الذاكرة.. وبالرغم من عدم قدرة المفكِّر على قَطْع كل صلةٍ له بالذاكرة؛ لأنها شرط من شروط الفكر، إلا أنه يشتغل على فكر يعيد البناء»

(المرجع www.almoltaqa.com).

سيذكر الكثيرون من متابعي صحافتنا المحلية، خلال الأربعين عاماً المنصرمة، أن محمد العلي كان واحداً من أبرز كُتّاب المقالة القصيرة على صفحاتها، من حيث الالتزام بمواعيدها والوفاء لمتطلبات قصرها، والانشغال على كتابتها بحميمية متصلة، حتى طغى حضوره عبرها على نشاطاته الأخرى بوصفه ناقداً أدبياً وباحثاً ومفكِّراً.

بدأ كتابة مقالاته القصيرة في جريدة اليوم منذ عام 1969م بحسب ما تضمنه كتاب الأستاذة عزيزة فتح الله «محمد العلي شاعراً ومفكراً»، وذلك يقارب ما أذكره من تاريخ تعرفي على زاويته الشهيرة «أمام المرآة»، حيث استمر في التزامه بنشرها أسبوعياً لمدة تقارب العقد من الزمن، ثم التزم بكتابة زاوية يومية بعنوان «بعد آخر» لمدة عامَيْن في الجريدة نفسها، بين عامي 1980-1981م.

ولظروف معروفة، تسمى عادة «مرحلة ما بعد السجن»، كان باب جريدة «اليوم» مغلقاً أمامه، فبدأ في الكتابة في مجلة اليمامة (خلال عام 1984م) تحت عنوان شهير هو «وقوفاً بها»، لمدة عام تقريباً، ثم عاد بعد ذلك لكتابة زاويته اليومية أو الأسبوعية في جريدة اليوم على مدى عقد من السنين، حتى تحولت في مرحلة أخرى إلى الكتابة لثلاثة أيام في الأسبوع لمدة تجاوزت ستة أعوام، ما بين عامي 2004م و2009م، ليعود بعدها إلى الكتابة الأسبوعية.

خلال هذه الرحلة الزمنية الطويلة استضافته بعض الصحف المحلية؛ ليكتب فيها بجانب كتابته في جريدة اليوم، مثل مجلة الشرق، وجريدة عكاظ، وجريدة الرياض، وجريدة الجزيرة، وجريدة الشرق الأوسط، وجريدة الرياضي، ولاحقاً جريدة الحياة، وجريدة القبس، وبعض الصحف الخليجية.

لذلك يمكننا القول إنه قد نشر أكثر من خمسة آلاف مقالة قصيرة وطويلة خلال الفترة ما بين (1969 - 2010م). وبالرغم من الجهد الرائع الذي بذلته الأستاذة عزيزة فتح الله وزوجها الأستاذ محمد القشعمي في تجميع مادة كتاب «محمد العلي - شاعراً ومفكراً»، إضافة إلى الجهد التالي الذي قام به الأستاذان محمد الشقاق وحمزة حسين الحمود في جمع بعض مقالاته في كتاب ضخم بعنوان: «كلمات مائية»، إلا أنه لا بد لنا من الإشارة إلى أن هذين الكتابين معاً لم يضما أكثر من 20 % من حصاد مقالاته الصحفية؛ لذا فإن على الباحثين والمهتمين بنتاجه الأساس في حقل المقالة القصيرة أن يبذلوا جهداً كبيراً للتنقيب عنها في أرشيف تلك الصحف؛ لاستكمال صورة ما تفاعل معه ودوّنه محمد العلي على صفحات الجرائد والمجلات طوال عمره الثري والمديد.

ولعله من المناسب في هذه التقدمة القصيرة أن أشير إلى أن ارتباط كاتبنا بجريدة اليوم وجدانياً ومكانياً وتحريراً قد جعله أباً روحياً لمحرريها ولقرائها؛ حيث لا يمكن أن تُذكر الجريدة دون أن يحضر اسمه؛ وذلك ما يفسر لنا سر استمرارية إخلاصه للكتابة لها؛ حيث غدت «اليوم» الجريدة بيته الأول ومرآة انفعالاته بكل القضايا، فلا يتحرج أن يكون «كما هو» واقفاً في أروقتها، ومطلاً من خلالها - كشرفة بيت - على ما يريد، أو يود أن يريد، من خلال «مرآته الضخمة المتشظية»؛ فتتدفق كتابته بعفوية وشفافية لافتة، عبر حقول من الأفكار والانفعالات والمعالجات، يجد فيها القارئ المتابع سردية حياة ثقافية واجتماعية وفكرية منغرسة في شجرة الحياة الضخمة وفي نهر الزمن المتدفق.

أما في المناسبات، أو الظروف الأخرى القسرية، التي يضطر إليها، أو يُدعى خلالها للإطلالة على قُرَّائه في منبر إعلامي آخر، فإنك ستجده مثالاً لـ»الضيف» الذي يعلم مسبقاً أنه سيغادر هذا المكان؛ فيلبس لهذه المناسبة ثيابها الملائمة، وينظّم مقالاته ضمن محور رئيس يلمّ شتاتها، ويعمق أطروحاتها، من خلال «مرآة الشفافية المستوية»، مستفيداً من كرم المستضيف حين يمنحه - وباستحقاق - مساحة أوسع من زاوية صغيرة، لكتابة ملخَّص لبحث فكري معمَّق وموجَّه للخاصة من القراء!

وقد أوضح في إحدى مقالاته ما يراه فارقاً أساسياً بين المقالة القصيرة والمقالة الطويلة، من حيث الباعث على كتابتها وأسلوبها؛ حيث يقول: «الفارق بين المقالة الصحفية القصيرة والطويلة يشبه الفرق بين القصة والرواية، حيث إن القصة قطرة من النهر، أما الرواية فهي النهر كله».

وضمن هذا المنظور يرى أن المقالة الطويلة هي التي «تعالج موضوعاً ما من جوانب مختلفة، ومن أبعاد يلتقي فيها أكثر من زمان ومن مكان».

وبطبيعة الحال فإن هذا الحقل يستدعي توافر الكاتب على مقومات كثيرة، منها مَلَكة المثابرة والجلَد والتأمل والبُعد عن الانفعال العاطفي؛ لذلك فإن «العلي» يُؤثر - لأسباب كثيرة سنأتي على ذكرها - الاستمرار في كتابة المقالة القصيرة التي يسميها (لقطة)؛ «لأنها أكثر وصولاً إلى شرائح واسعة من القراء، ولأنها تسمح للعاطفة بأن تجد أمامها نوافذ كثيرة وأبواباً، على العكس من المقالة الطويلة التي تستهدف فئة خاصة من القراء، لديها الدافع للقراءة، وتهتم بالتفاصيل كاهتمامها بألا تدخل العاطفة كجزء من الموضوع». (العلي - شاعراً ومفكراً ص 49)

هل «العلي» كاتب صحفي؟

ارتبط مصطلح الكاتب الصحفي بالوظيفة اليومية «للصحيفة» في متابعتها للحدث الآني، السياسي والاجتماعي والانتقادي للأجهزة الحكومية والأهلية المقصِّرة في أداء وظائفها الأخلاقية والخدمية للمجتمع. وتقتضي هذه المهام أسلوب كتابة شديد الوضوح والمباشرة بغية الوصول إلى إبداء رأي محدَّد في تلك الظواهر.

أما «العلي» فإنه يفترق في كتاباته للصحف عن الكاتب الصحفي في مقاربة الإشكالات الاجتماعية والقضايا الحياتية اليومية، استناداً إلى ما يمتلكه من موسوعية ثقافية ورهافة أسلوبية تعينه على تحويلها من مستوى كونها حدثاً يومياً إلى كونها نتاجاً ثقافياً ومعرفياً لسلسلة من السياقات (العديدة) التاريخية والآنية؛ ولذلك يستثمرها في الكتابة للتعبير عن «رؤية» وليس عن «رأي»، ويقاربها بمنهج تحليلي ونقدي متسائل، لا تقريري أو صحفي متعجل.

لذلك سأقول، ومن موقع لصيق بتجربته، إنه قد عانى مبكراً، بوصفه مفكِّرا ومبدعاً طليعياً، قسوة المناخ الثقافي القاتل - مع الأسف - حين وجد أمامه طريقين: إما التوقف أو الاستمرار في الكتابة ضمن الحيز المتاح، فقبل مجبراً خيار كتابة «المقالة القصيرة»، بدلاً من الانهمام ببلورة مشروعه الثقافي والفكري، في دراسات وأبحاث، مثلما قرأنا ذلك في محاضراته؛ لأن الظروف الموضوعية المحلية آنذاك لم تعنه أو تحفزه أو تتحداه للتفكير في بلورة ذلك المشروع في كتاب أو مؤلفات عديدة.

وعبر خيار كتابة المقالة القصيرة مضى في تطوير أسلوب خاص به، يجمع بين ضرورة الاستجابة لمتطلبات حضور البُعد اليومي في كتابة المقالة الصحفية واستثمارها كـ «بُعد آخر» يعبِّر من خلاله عن انشغالاته الفكرية والاجتماعية والأدبية؛ حيث يركِّز انتباهه على اصطياد اللقطة اليومية كلحظة محفزة على الكتابة، ومن ثم العمل على توظيفها، بوصفه مفكراً وشاعراً، في نص المقالة الصحفية المكثفة، التي يصفها بقوله: «إنها لقطة لجوهر شيء ما، لا تتفرع، لا تلتفت، لا تعرف التجزؤ.. إنها سهم صغير، طريقه محدد منذ لحظة انطلاقه». (العلي - شاعراً ومفكراً ص 51).

وضمن هذه المعادلات يمكننا القول إنه قد تكيّف أو جرى تكييفه؛ لكي يعتاد على التفيؤ تحت شعاره الضخم «أنا كاتب كسول»!؛ فاكتفى بما يمكن مقاربته أو الإيماء إليه من موضوعات وأفكار عميقة ومكثفة، عبر زاويته الأثيرة في الجريدة؛ حيث يقول في ذلك:

«كنت أبحث عن وجهي فعلاً، وبدأب لا يعرف التوقف.. وجهي موجود في الحياة وفي المرآة، وفي أشياء كثيرة، ولكنني لم أكن أبحث عنه في تلك المواقع، كنت أبحث عنه في الجريدة فقط!» (العلي - شاعراً ومفكراً ص 49).

لماذا؟

لأن الجريدة كانت الطريق الوحيد المتاح أمامه للتعبير عن رأيه وللتواصل مع القراء.

فهل وجد وجهه فيها؟

يقول في إحدى قصائده:

«في سفري سأكتب القصيدة

وأنحت الملامح النقيّة الجديدة

لوجهي الذي

بحثت عنه دونما أثر

في صخب الجريدة»

(المصدر السابق).

القصيدة، التي يتعشّق كتابتها ويحلم بأن يرى وجهه فيها، ليست الشعر وحده، ولكنها ملامح الوجه الجديدة للوطن، التي ما زالت عصية على التشكيل في الحلم، وفي العمل السياسي، وفي الشعر، وفي الكتابة، ومع ذلك بقي مستمسكاً بالجريدة كجسر للتواصل مع قارئه المهموم، بتلك المشاغل، مثله.

-

- الظهران

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة