Culture Magazine Thursday  05/05/2011 G Issue 340
أوراق
الخميس 2 ,جمادى الثانية 1432   العدد  340
 
قصة قصيرة
الجائل..!
خالد أحمد اليوسف
-

تصرخ قدماه، ينتابها الألم والهوان والأنين، تتوسل إليه، ترغبه في البقاء إلى وقت آخر، تتمتم له بشكواها مما أصابها، وتخبره عن أحوالها والمسافات التي قطعتها دون فائدة، لا يصيخ لها سمعاً، لا يبالي لحاله وجسده وضعف قدراته، فقد نسي كل هذا منذ زمن لا يعرف بدايته.

وعى بعد غياب طويل كينونة لا يعلم مصدرها، له لحية سوداء كثة متصلة بشاربيه، وجسم ناحل لا يقوى على القيام بنفسه، ترتعش أطرافه، مشتت الذهن والتفكير، لا يدرك بداية نهاره أو منتهاه، أو متى يأتي الليل لينام فيه، أو يعاتب نفسه على نهايته دون نوم أو راحة!، لا يذكر من ماضيه إلا اسمه، ويعرف أفراد عائلته بامتعاض وكره وهروب يجهل نشأته؟!

يلجأ شافي إلى الخروج من منزله لأوقات متواصلة، خاصة بعد أن شعر بمقدرته على المشي، وشفي من السقام الذي طرحه على فراشه أشهراً طويلة، تبدأ خطواته منذ الصباح الباكر، فيذرع الشوارع والأزقة دون وجهة معينة، لا يتحدث مع أحد، ولا يستوقفه مشهد أو حالة تسترعي الانتباه، سيره بلا هدف، أقدامه تائهة، نظراته زائغة، إن رفع رأسه إلى الأعلى، ويغلب عليه السير مطأطئ الرأس، مع اهتزاز في جسده الذابل. يمر بمنزلهم مرات متتالية، يهم بالدخول ثم يتراجع ليكمل المشي، بعد أن يتوقف للحظات أمام بابهم الموارب!

أحياناً تظلله سحابة الإيمان بعد سماعه آذان المسجد القريب، فيتراجع ويعود إلى بيته، بعد هنيهة من دخوله إليه يخرج بهيئة مختلفة، وقد لبس ما يناسب المسجد وزينته.

وفي أحيان أخرى لا يلقي للمسجد بالاً، فتراه يمر به مرات متتالية، وأهل الحي يتقاطرون لأداء الصلاة بعد سماعهم للآذان أو الإقامة؛ إلا أن تردده حوله يثير الأسئلة؟

يلفت شافي الآخرين من جيرانه بتقلب أحواله ومواقفه، وتغير طباعه اليومية، وتبدلها من حال إلى حال؛ يود بعضهم استيقافه للسلام عليه، وآخر يرغب سؤاله عن صحته، وآخر يشعر برغبة النظر إليه عن قرب، وأخيراً يتابع تحركاته وتصرفاته في كل الأوقات، إلا أن الجميع لم يقدم على تصرف إزاءه.

كانت الشهادة الجامعية هدفا له، فانكب على كتبه ومحاضراته، ولهث خلف أساتذته بسعادة وحبور، تدرج سريعاً في قاعات فصول السنة صيفها مع شتائها، واختصر الزمن مثيراً لنظرات الآخرين له، ومحفزاً للسؤال عن تخصصه المطواع الذي يسير معه كيفما شاء!!

في الصيف ما قبل الأخير لتخرجه، جاءته منحة دراسية خلال الصيف في بريطانيا، فأجمع أهله مع رغبته ووافقوا على ذهابه، علت همته للاستزادة من اللغة الإنجليزية، ونشط في اكتشاف هذا العالم المغاير لمدينته وأهله ومن حوله، أزاح مع الأيام خماراً كان مختبئاً وراءه، كانت رغباته الداخلية تنزع إلى التجديد والبحث لما وراء البعيد والمجهول، فقرر طلب المواصلة على المدة المقررة له، وكانت درجاته وسلوكه شافعة لموافقة الجهات العليا على طلبه، فتم له ذلك لفصل دراسي كامل.

انتقل إلى الريف الإنجليزي، تواصل مع كل الجهات الرسمية وأهله لفترة من الزمن، ثم بدأت تنقطع أخباره تدريجياً، ثم يعود مرة ثانية، إلا أنه يزيد في اختفائه على فترات أطول، ثم انقطع الاتصال نهائياً، مضت الفترة وانتهت المدة المسموح بها، طال البحث عنه من الجهات المسؤولة ؛ وفي يوم غائم بسحاب انجلترا الداكن المتراكم جاءت الأخبار.. وجد شافي في أحد البيوت العائلية وهو مريض منذ زمن طويل، تضاربت الأقوال، فهناك من يقول إنه مصاب بسحر يهودي، وآخر يقول أصيب بحالة عشق إنجليزية المنبع لم يستطع الانفكاك منها، وثالث يقول إنه تعرض لمؤامرة من زملائه في الكلية بعد ليلة حمراء، وقد فقد وعيه في آخرها.

أعيد إلى مدينته بعد فشل طويل من علاجه في مكان دراسته، وسقط بين أيدي عائلته، جرت المحاولات تباعاً، وُطرقت أبواب الاستشفاء له، وتنقل والده به من مكان إلى آخر، لم تصل جهودهم إلى نتيجة أو علاج، فبقي طريحاً فاقداً لوعيه أياماً متواصلة، وفي أيام أخرى يكون حاضراً مع بطء سيران العافية في جسمه.

في يوم جديد لا يختلف عن غيره، لم يخرج شافي كعادته مع بزوغ الشمس، فتشبثت خيوط الشمس في قرصها، وجاء النهار خفيف الحرارة والضياء. فتح شافي بابه وجلس أمام بيتهم متردداً في وجهته، كانت حركة الحي الصباحية ساكنة، وبعد جولة سريعة حول بيتهم، شعر برغبة قوية لقيادة سيارته القديمة، عاد ووقف أمامها، كانت واقفة قرب رصيف منزلهم، وقد استمرت الحياة فيها بسبب عناية أخيه بها، فتح بابها، ركب وأدار المحرك، ارتعدت وانتفضت ودارت الطاقة فيها، يمسك بالمقود وكأنه يستعيد شيئاً من ذاكرته، إلا أنه ألجم فاختفت حواسه كعادته، مضى وقت غير معلوم على هذه الحال، ثم غادرها وتركها كما هي، هام على وجهه مبتعداً عن بيته طويلاً، لم يكن اختفاؤه يستمر في غابر خروجه، ولم يكن يظل خارج الحي مبتعداً عنه، ولم يتعود أهل الحي على عدم رؤيته إلا إذا كان مريضاً، ويعلمون بهذا من سؤال إخوته عنه.

قيل إنه اختفى ولم يعد بعد ذلك اليوم، وقيل إنه وجد ميتاً على رصيف مهمل على حافة طريق سريع، وقيل إنه وجد في أحد المستشفيات في غرفة العناية المركزة، بعد عثورهم عليه وهو في حالة إغماء شديد، وقيل إن عودته جائلا في الحي لم تعد ممكنة!!

-

- الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة