كلما اغترفنا من نهر التشكيليات ما يروي ظمأ القارئ العاشق للفن التشكيلي ازداد تدفق جريان هذا النهر بقوة وطموح في هذا الوقت الأجمل الذي تعيشه بلادنا من ازدهار تضاعفت فيه مظاهر الحضارة الحديثة في كل الاتجاهات، وأخذ الإنسان المبدع في هذا الوطن نصيبه من الدعم فتجاوز هذا الدعم محدودية الجنس الواحد (الرجل) إلى النصف الآخر الناعم إبداعاً وعطاء، الذي لا تقلل صفة النعومة فيه شيئاً بقدر ما تمنحه الخصوصية في كيفية التعامل والتعبير والقدرة على تطويع أدوات التعبير أياً كانت تلك الأدوات، ومهما كانت صعوبة التعامل معها؛ فأصبحت التشكيليات في هذا الوطن نداً للرجل التشكيلي من خلال منافسة شريفة لا تقبل فيها أي تراجع أو انهزام؛ فحققت بذلك الجوائز، وأصبح للتشكيليات صوتٌ قويٌّ من خلال عطاءاتهن الإبداعية في اللوحة والنحت والفنون المعاصرة، وتسلحن بالموهبة أولاً، واتبعنها بالدراسة وتنمية القدرات.
نماذج تستحق الإشادة
من هنا، ومن خلال هذا المنبر (جريدة الجزيرة) ومجلتها الثقافية، أن نواصل التعريف ببعض من لهن دور فاعل ومواقع قدم في الساحة التشكيلية، استطعن بإبداعهن المتميز أن يرسمن لهن خط سير يتوازى وقد يتجاوز الكثير من مثيلاتهن على المستويين العربي والعالمي، وإذا قلنا البعض فذلك يعني أن الساحة مليئة بمن لديهن الكثير مما يجعلهن مستحقات الإعجاب والتقدير.
اليوم، وكما كنا معكم في الأعداد السابقة، ومع أسماء أشاد بها النقاد والمتابعون، نستضيف الفنانة التشكيلية السعودية شاليمار شربتلي، التي أقامت معرضين في القاهرة مع بداية خطواتها في تقديم إبداعها للآخرين، وشاركت في العديد من المعارض، ومثلت المملكة في مناسبات ثقافية عالمية وعربية لها مقتنيات في مؤسسات ولدى أفراد. صدر لها كتيب بنسختين، إحداهما باللغة العربية والأخرى بالإنجليزية، اشتملا على كلمات لنقاد عرب أشادوا بأسلوبها وخصوصية تعبيرها. قال عنها الناقد والفنان عمران القيسي في بداية كلمته: “شاليمار شربتلي هي الحواس التي تلتهب بالحركة والسكون، بالحار والبارد، بالصعب والمستحيل؛ لذلك علينا أن نرى لوحاتها من خلال جمع التفاصيل كافة وإعادة نثرها ثانية. إنها فنانة عرفت كيف تُشكّل الجانب الانفعالي النفسي والحي، وتزرعه كغابة من الأسئلة”.
وقال عنها الفنان هشام قنديل: “هي واحدة من القلة النادرة ذات الحواس المرهفة المفتوحة.. من بدايتها وهي تحطم سكونية اللوحة وكسر حدة المكان الكلاسيكي وصبغة الجمالية المحفوظة بشكل نمطي”.
العزف على أوتار الخط واللون
لا شك أن للعين إحساساً بالنغم حينما تتعامل مع مثل لوحات شاليمار التي يتحول فيها الخط بليونته وحركته الانسيابية إلى ما يشبه الموسيقى الهادئة دون نشاز؛ فلا نجد للخط المستقيم الميت مكاناً أو للزاوية الحادة الجارحة إلا القليل من الحضور، بقدر ما تجعل العين تنساب كجريان الماء إلى كل جزء من اللوحة متبعة ذلك بألوان قد يراها البعض قوية وصارمة لكنها في الوقت ذاته تضيف للوحة قوة وصلابة البقاء والعودة للأصل اللوني أكثر منه تفصيلاً أو تجزئة لتترك للمشاهد قراءتها وتحليلها.
استطاعت الفنانة شاليمار أن تعيد صياغة أحلامنا من الطيف الهارب إلى أرض اللوحة.. برمز.. أو إشارة.. إلى شيء ما كان في ذاكرتنا، مر عابراً وأبقى في عقولنا الباطنية أثراً تغطيه ظروف الحياة وهمومها إلى أن يأتي من يزيل عنه هذه الغشاوة.. وتلك هي لوحاتها.
اللوحة عند شاليمار بوابة إلى أعماق النفس أكثر منها شكلاً من الواقع، وهذا أمر لا يمكن الوصول إليه دون تمعن ودراية وعمق معرفة بعلم النفس أو فراسة يوهب بها الإنسان. في لوحاتها عالم من المعلوم والمجهول يأخذنا تارة إلى أسطورة زمن ما.. وحقبة لا نجد لها أثراً كما هي في مختزل التشكيلية شاليمار، وتارة تعيدنا إلى حكايات تلامس العاطفة وتُثير شجون الحب والعلاقات الإنسانية لتغسل ما علق فينا من عوالق.
وقد يكون في تخصصها العلمي في العلوم الجنائية التي حصلت فيها على درجة الماجستير ما يعفينا عن البحث ومعرفة ماذا تحمل شاليمار من معرفة بالإنسان وأبعاد شخصيته مزجتها بموهبة لا يختلف على نجاح تجربتها التشكيلية بها أي محق ومنصف.
-
+
monif@hotmail.com