تعرّفتُ على شخصية (فوزية رشيد) من خلال اشتغالي على الرواية النسائية، ووجدتُ لها نشاطًا ثقافيًا يتجلى في (عضويات) متعدّدة، ومقالات نشرتها في أكثر من صحيفة، عبّرتْ فيها عن رؤية نقدية جريئة.
هي -تبعًا لما سبق- مثقفة، ومثقفة فاعلة (أو هذا ما بدا لي على الأقل)؛ تغوص في أعماق المجتمع بالقصة القصيرة والرواية، وتشخِّصه وتعالجه بالمقالة، وجملة ما أنجزته - في هذين السياقين - يشير إلى أنها تستحقّ فعلاً وصفَ المثقفة، وتمتلك إلى حد كبير القدرة على القيام بالدور المناط بالمثقف، ألا وهو قيادة الزمن على المستوى الذهني.
لكنّ أحداثَ البحرين الأخيرةَ كشفت لنا شيئًا آخر، هو أنّ (فوزية رشيد) تعرّضت لخُدعة كبيرة؛ إذ تمّ توظيفها بالكامل في مشروع كاد يقضي على البحرين وعلينا، وهذا التوظيف لم يكن من ورائها (كأن يستغلّ اسمها أو توقيعها) وإنما كان بين يديها، شاركت (هي) في بنائه وتأثيثه بكلامٍ لا يحمل طهرَ الكلام، ومشاركة مجنونة في مسيرات تسبِّح باسم الضياع.
وإن تعجبوا فمن عجب أن هذه المثقفة الفاعلة التي تغوص في أعماق المجتمعات لم تكتشف هذا التوظيفَ إلا بعد زمن طويل (في تقدير المثقفين)، وحين اكتشفته توضأت بالصوت الندي، وأخذت تصرخ في الغداة والعشي بالبراءة من نفسها ومسارها ومسيرها، ولم تجد ما يعيب في أن تعترف بأنها قد خُدعت، ولا في أن تطلب منا -ضمنًا- أن نصدِّقها.
وفي برنامج الراصد الذي تقدمه لصالح تلفزيون البحرين (مايسة الذاودي)، ظهرت (رشيد) لتتحدث بمعية (علي خليفة) و(إبراهيم بو هندي) عن دور المثقفين في الأزمة، وكانت تنتقد هذا الدورَ، وتشكِّك فيه، وحين فاجأتها مذيعة البرنامج بأنها كانت ضمن المشاركين في المسيرات الاحتجاجية أُسْقِطَ في يدها، وتحولت من نقد الخطاب الثقافي الذي لم ينهض بدوره إلى نقد الخطاب الثقافي الذي خدعها، وورّطها في الانخراط في حركة كانت تتغيا القضاء على الوطن وأيامه الجميلة، ولقد استماتت في تقديم ما هو مُتاح من الأدلة المادية والمعنوية؛ لتبرئَ نفسها من العمد، وتدرجها في طابور طويل طويل من المخدوعين، والمغرّر بهم.
لا أنفي هنا أن تكون (رشيد) قابلة لأن تُخدع أو توظّف، فقد خُدِع -من قبلها- ووظِّف من هو أثبت منها قدمًا وأمضى قلمًا، لكنني -في المقابل- أستبعد إمكانية التصديق بأن يُخدع المثقف في أمر مصيري كهذا، وحتى لو آمنا بذلك ستكون (رشيد) من أبعد من تنطبق عليه هذه القاعدة؛ لجملة أمور، أهمها:
أولاً: أنها طرحت في عام 2002م فكرة (ثقافة المواجهة)، ودعت على هامش هذه الفكرة إلى المواجهة الثقافية، التي ينهض بها المثقفون للدفاع عن قضايا أمتهم وأوطانهم..، وما من شك في أن الدعوة إلى فكرة كهذه لا يمكن أن تصدر إلا من مثقف يعي جيدًا الالتباسات التي تحيط بالعالم العربي -وبدول الخليج تحديدًا-.
في هذا السياق قدّمت (رشيد) في مقالاتها الكثير من الأدلة على أننا نعيش في دائرة المؤامرة، وأن عالمنا العربي -فضلاً عن الخليجي- غارق إلى أذنيه في سلسلة من المؤامرات التي تتسع وتضيق باتساع فاعلها وضيقه؛ وتبسِّط فكرة المواجهة بقيام المثقفين بدور فاعل في كشف هذه المؤامرات، والتنبيه عليها.
ثانيًا: كتبت (رشيد) أكثر من مرة في عجز المثقف العربي عن فهم خلفيات الواقع السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي (بمدلوله الضيّق)...، وطرحت أكثر من سؤال في هذا السياق، بل تجاوزته إلى التشكيك ضمنًا في مواقف بعضهم.
نقرأ لها على -هامش الحرب الأمريكية على العراق- من مقالة بعنوان (أيعقل أن يكون الأمر غامضًا؟: 2004م): « كنا نقول هؤلاء الكتاب مندفعون مثلاً وراء (أوهامهم)، والأيام ستريهم حقيقة الأمور، ولكن بعد أن اتضحت حقيقة الأمور (فأي وهم جديد يتكئ عليه هؤلاء؟) الذين لا شغل لديهم إلا الحديث عن الديمقراطية والحرية والرخاء على الطريقة الأمريكية التي تريد فرضها على المنطقة؟! ألا يرى هؤلاء أحداث العراق مثلاً وما آلت إليه الحرية والديمقراطية على الطريقة الأمريكية؟!».
ثالثًا: انتقدت (رشيد) كثيرًا وظيفة المثقف العربي، وعرّت النقائصَ التي تتناسل في خطابه، وما من شك في أن الناقد ينطوي على مسالك أكبر من مسالك المنقود، وهذا ما تشعر به (رشيد) وتظهره في أكثر مقالاتها، ويكفي دليلاً على ذلك سخريتها من أسماء لامعة في الساحة الثقافية بقولها: «لا يعرف كوعه من بوعه» (انظر مقالتها: الأسماء الصحفية اللامعة وتركيبة الجهل، 2005م).
رابعًا: طرحت (رشيد) في عام 2003 فكرةَ الباطل الذي يتلبس ثيابَ الحقّ، فيبدو حقًا من الخارج رغم كونه باطلاً مترعًا بالخراب من الداخل، وترى (رشيد) في هذا السياق أنّ مطالب الديموقراطية والحريات من أهمِّ الأمثلة على الحقّ الذي يُراد به الباطل، ولا تتورع من وضع هذه المطالب تحت لافتة الابتزاز.
وترى في مقالتها (جهات داخلية متماسكة: 2003م) أنّ الديموقراطية التي نعزف على وترها اليوم ليست بريئةً من الفهم الأمريكي المسيّس، وتعرِّفها -تبعًا لهذا الرأي- بأنها «إتاحة الفرصة أمام فئات الفوضى؛ لتعبر عن نفسها، ولتعلن فسادها الفكري سياسيًا وأخلاقيًا، مثلما تنمُّ عن تشجيع أقليات الطائفية والانقسام في البلد الواحد؛ لتتحرك بحرية بما يضرّ في النهاية بمصالح الشعوب التي توجد بينها».
مما سبق يتضح لنا أنّ فوزية رشيد محصّنة من الداخل، بحيث لا يمكن اقتحامها، أو توظيفها في مشاريع رخيصة كالمشروع الذي استهدف البحرين وأمنه، فهي تعي منذ عام 2003م أنّ العالم العربي محاطٌ بمؤامرات لا حدّ لها، وهي تعرف أيضًا أنّ الطائفية قنبلة موقوتة يمكن في أي لحظة أن تنفجر فتدمّر كلّ شيء، وهي على يقين بأنّ المطالبة بالحريات والمناداة بالديموقراطية مهمة لكنها تتعرض كلّ حين لتوظيف سياسي أو إيديولوجي أو طائفي يجعلها كالحقّ الذي يُراد به الباطل، وهي من وراء ذلك كلّه لا تفتأ تنقد المثقف العربي، وترثي دوره وخطابه، وتدفع إليه بجرعات من الكلام الحماسي؛ عله ينهض من جديد فيعود -كما كان- فاعلاً لا خاملاً، متنًا لا هامشًا.
إنّ مثقفة بهذه الصفات لا يمكن أن تتعرّض -بحال من الحالات- للخديعة، ولا يمكن أن تذهب ضحية مواقف عرف البسطاءُ -وربما الموتى- غايتها منذ استهلّت صارخة حول دوّار اللؤلؤة.
وإن صدّقنا هذا الزعم، وقبلنا أن تُخدع مثقفة بهذا الحجم، فلن نجد أمامنا إلا مخرجين: إما أن يكون المخدوع هو الخادع في الآن نفسه، وإما أن يكون خطابنا الثقافي معدًا لما قبل الأزمة ولما بعدها، وليس معدًا للأزمة نفسها، وعندها يكون وجوده مثل العدم -أو هكذا أظنّ-.
في الحالين أحسن الله عزاءنا في المثقّف الحرّ النزيه.
-
+
Alrafai16@hotmail.com
- الرياض