نعيش هذه الأيام وعياً جديداً بمجموعة من القضايا الاجتماعية، ونختلف في آرائنا العامة عنها وعن غيرها. ربما كان اختلافنا اختلافاً في درجة الوعي أو اختلافاً في طبيعة الخوف، وربما كان اختلافاً في خلفياتنا الثقافية، تجاربنا الشخصية، مستوى تعليمنا، تيارنا الفكري أو اتجاهاتنا الدينية والكثير مما لا يمكن أن نحصيه ومن الممكن أن يؤثر في وعينا بهذه المرحلة. هذه المرحلة المهمة التي نمر بها في المجتمع السعودي قد يتكرر فيها القول من البعض عن البعض بأن المواقف تكشفت والأقنعة سقطت؛ ولهذا لن يكون السؤال: كيف يمكن أن نتعرف على الآراء المختلفة؛ كي لا نُفاجأ بالآخرين، بل السؤال: كيف يمكن أن نتبنى آراءً لا تخذلها مواقفنا؟
بمعنى ثانٍ: ثمة آراء نؤمن بها نصطدم بمواقفها التي لا تمثلنا. يمكن لحق قيادة المرأة السيارة أن يكون مثالاً واضحاً هنا. الكثير من المؤمنين بهذا الحق الشخصي للنساء فوجئ من مواقف البعض من المتفقين معه بالرأي؛ فالأقلام التي تؤيد الحريات وتدفع المجتمع باتجاه حياة أكثر انفتاحاً وفكر أكثر تسامحاً هي مجرد آراء يتفق معها، لكنها تخذل نفسها بمواقف لا تمثل رأيها؛ فالقول بـ»تسييس قضية القيادة» هو طرح يبدو موضوعياً، لكنه موقف يخذل رأي صاحبه؛ فالذي طالب بالحرية الإنسانية لم يتخذ موقفاً من مصادرة حرية إنسان آمن بالآمنين والمؤمنين مثله بالحريات، وقدّم موقفاً عملياً لرأيه؛ لأن القول بتسييس القضية سيكون موضوعياً لو طُرح في وقت سابق لهذه المبادرة الفردية. لم تعد القضية اليوم «قيادة المرأة السيارة» بل أصبحت مبادرة مواطنة بقيادة سيارتها انتهت بتوقيفها. القضية الأولى تحتمل الرأي الموضوعي بالتسييس، لكن تمثل هذا الرأي في القضية الثانية يُحيله إلى موقف من شخص لا رأي في قضية. لقد تمثل الحق العام في شخص واحد اليوم، والقول بتسييس هذا الحق الآن يعني تبني موقف من هذا الشخص؛ لأنه مسيس، وهو بالتأكيد ما لم تقصده مقالة طارق الحميد أو جملة مشاري الذايدي الاعتراضية.
المسألة ليست في الدعوة إلى اتخاذ موقف رغم أهمية مثل هذه الدعاوى؛ المسألة كيف يمكن لنا في هذه المرحلة المشتعلة بالآراء في مجتمع يتعرف متأخراً على نفسه وعلى قضاياه أن نتبنى آراء لا تخذلها المواقف؟ كيف يمكن أن يتشكّل وعينا بالقضية بطريقة تسمح لنا بتكوين رأي وموقف منسجم؟ ثمة ما يفتقده الرأي العام السعودي باختلاف توجهاته، إنه المعرفة التي تنبني عليها الآراء، وقبلها المعلومات التي تُشكّل هذه المعرفة. اليوم جميعنا يقدِّم رأياً، لكن القليل جداً منا يعتمد في رأيه على المعرفة. وفي مثال القيادة السابق تشكَّل رأي ليس قليلاً بأن المبادرة في هذه الفترة ليست شخصية وفردية بل مدفوعة بحركة منظَّمة. على أي «معلومة» يعتمد هذا الرأي؟ وهل يمثل هذا الرأي معنى تخوينياً أم أنه يتفاوت بين مخون وآخر تغريبي وثالث يبحث عن الحقيقة فيقدِّم تحليله بدون معطيات؟.. هنالك رأي آخر يؤمن من منطلق إنساني بخطأ السجن دون حُكْم، وطبعاً هنالك الرأي المتعاطف شخصياً والمؤمن بالمبادرة، الذي يرفض بشكل قطعي أن تكون مدفوعة بغير مبادئ فردية. في مقابل كل ذلك القليل منا الذي لا يُبدي رأياً؛ لأنه ينتظر تكوين معرفة عن القضية، لكنه في الوقت نفسه يأخذ موقفه بالمطالبة بالمعلومة.
ربما مع الوقت ينتهي التحقيق مع السيدة منال، ونعرف أنها تؤمن بقيمة المنظمات الدولية في تنمية أوضاع المرأة ومنحها حقوقها. معلومة بسيطة مثل هذه من الممكن أن يُصفِّق لها الرأي التخويني التغريبي؛ لأنه رأي لا يفهم الفَرْق بين المؤسسات المدنية العالمية والاستخبارات الأجنبية أو جهاز الإنتربول مثلاً؛ وعليه لن يفهم أن مسألة التواصل مع هذه المنظمات لبعض السيدات ليست سراً بل قناعة مدنية ووعياً من نوع خاص. مثل هذه المعلومة يمكن لها أيضاً أن تُغيِّر من مواقف بعض المتعاطفين الذين سيشعرون وكأنهم في حرج؛ لأن التي استماتوا في الدفاع عنها أصبحت على صلة بحركات خارج البلد، وربما يجد البعض منهم في ذلك حقها وحقهم الإنساني والمدني طبعاً.
من المهم - إذن - تكوين آراء اجتماعية حول قضايا عامة، لكن الأهم أن تنبني على معرفة بالقضية وتداعياتها. الأهم ألا نُشكّل رأينا قبل أن نصل إلى المعلومة أو تصلنا؛ لأن تشكيل آرائنا بناء على المعرفة يمكِّن مواقفنا من الانسجام معها، والوعي الاجتماعي بالقضايا العامة عليه ألا يتوقف على آراء الآخرين التي ربما تخذلها مواقفهم. علينا أن ندرك أن المعرفة ليست بسيطة بل مجموعة من عمليات متفاعلة بين جمع البيانات وعملية الفهم وما ينتج منها من معلومات. علينا أن ندرك هذا تماماً مثلما أدركنا بالمعرفة أن قيادة المرأة كانت حقاً عاماً أصبح شخصياً جداً اليوم.
-
+
Lamia.swm@gmail.com
- الرياض