Culture Magazine Thursday  28/01/2010 G Issue 296
أوراق
الخميس 13 ,صفر 1431   العدد  296
 
إبراهيم الفوزان وأربعون عاماً
من الأدب السعودي 1-2
خالد بن أحمد الرفاعي

تذليل:

تعرّفتُ أولاً على (شخصيته) أيام كنتُ طالباً في مرحلة (البكالوريوس)، ثم مرّ زمنٌ فتعرّفت على (شخصه) في مرحلة (الماجستير)، وفيما بين معرفتي ب (الشخصية) ومعرفتي ب (الشخص)، ولد كلامٌ ومات كلام، وظلّت الكتابة هي الشاهدَ الوحيد للشواخصِ وظلالها، وللإنسان والإنسانية.... في أسبوع طالت أظافره كنتُ مستغرقاً في تفكير جاد، أبحث به عن موضوع بِكْر لرسالة أستكمل بها متطلبات درجة (التخصّص)، وكنت حريصاً على أنْ تكون الرسالة رسالة وإن تباطأ نموّها، وعلى أن يكون موضوعها موضوعاً وإن آلم وأسغب...

فكرة مجنونة تسللت أسواري ساعتها، أغرتني بدراسة الأسئلة المشتعلة من حول المرأة وأدبها بوجه خاص، ونجحتْ في إيهامي بأنني كبير، وأنني قادر على الإجابة عنها وعن أشيائها، فانطلقتُ إلى مكتب الأستاذ الدكتور إبراهيم بن فوزان الفوزان - كما يفعل أكثر طلبة الكلية - متأبطاً طموحاً جامحاً وجانحاً في الآن ذاته، عرضتُ عليه الفكرة: أن أدرسَ الإبداع النسائي السعودي في ثلاثة أبواب، يختص أولها بالشعر، وثانيها بالرواية، وثالثها بالقصة القصيرة!! فلم يسخر الشيخ من هذا الجنون كما فعل آخرون، ولم يبطئ بهذه الرغبة المسافرة في مدارات التيه كما فعلوا...، وإنما أخذها في كنفه الأخضر، وقررها بخطاياها، ثم عفا...

من مكتبه، وفي تلك الليلة (الصباحية)، كنت دارساً، وكانت الدراسة (الراوية النسائية السعودية)...

حاول قوم أن يفقأوا عين الدراسة وعيني، وأن يعطلوا أعضاءها وأعضائي، وأن يعرقلوا ركضي معها في أجنحة السماء، وأخلصوا في ذلك إخلاصاً لا جزاء له إلا الجنة الحمراء، ولقد رأيتني كلما جرحتني كلماتهم أضمّدها في فضاء هذا الشيخ الجليل، وكلما أزهقوا روحي أستعير من أرواحه ما يبلِّغني مجمعَ البحرين ومغتسَلَ النصب...

وبعد خمس سنوات شاء الله أن يتمّ نعمته، وأن يكشف في اللحظات الأخيرة كلّ شيء، فانتقلت رئاسة لجنة المناقشة إلى (الفوزان)، وصعد منصة القاعة متكئاً على قلبه الكبير، وجلس في الصدر كأنه السماء، وتلا من هناك سورَ الحبِّ بصوتٍ ندي، حتى أسلمت حروف وكلمات، وحتى تقرّرت رؤوس على كواهلها. ولكي تأخذ الصورة بعداً ثنائياً، ومفارقاتٍ جميلة، قضى الله أن يكون من جملة الحاضرين يوم المناقشة أولئك القوم الذين حاولوا أن يفقأوا الأعين، ويعطِّلوا الأعضاء!! لقد اختصرت تلك الصورة - رغم صغرها - مسافات طويلة طويلة، وأجملت حكماً أنساقاً، وقالت لي مالم يستطع قوله التاريخ ولا الجغرافيا..

إنّ علاقة من عشر سنوات قصيرة، وقصيرة جداً، لكنّ أبعادها المتباعدة كفيلة بأن تكون فاتحة لقول لا ينتهي...، ولأنّ هناك من كتب عن (الفوزان)، معتمداً على علاقة أقدم من علاقتي، وذاكرة أوسع من ذاكرتي، فإنني سأوجه القول في هذه المقالة شطر مؤلّفاته، وسأحاول أن ألتقط ما يكفي لتلخيص مسيرته، معتمداً على جزئيتين، هما: مشروعه الأكاديمي المباشر، ومشروعه الأكاديمي غير المباشر.

1 - مشروعه الأكاديمي المباشر:

كان (الفوزان) واحداً من أعضاء أول دفعة ابتعثتها (رئاسة الكليات والمعاهد) إلى (مصر) للدراسات العليا، وكان يمتاز عن باقي زملائه الأربعة بحمل سؤال ثقيل، دفع شبابه كلّه ثمناً للإجابة عنه، نقرأ له في فاتحة كتابه الرائد:

« أما أدب العصر الحديث في هذه الجزيرة، فلم ينلْ حظه من عناية الدارسين كما حظي أدب الأقاليم العربية الأخرى، ونظرة واحدة إلى كتب الأدب وتاريخه في عصرنا هذا تؤكِّد لنا هذه الحقيقة التي طالما صدمتنا وصدمت أبناءنا في المدارس والمعاهد العلمية، وسائر الجامعات في المملكة العربية السعودية، ولقد عشت هذه التجربة وعانيتها حين كنت أدرِّس هؤلاء الطلاب وليس في أيديهم إلا كتب الأساتذة من أبناء البلاد العربية الأخرى، وفيها الدراسة الوافية لكلِّ ألوان الأدب في تلك البلاد، ولطالما كان هؤلاء الطلاب يسألونني هذا السؤال: وأين أدبنا؟ أليس ل(الجزيرة) العربية أدبٌ في هذا العصر الحديث؟ « (1).

سافر (الفوزان) إلى (مصر) بهذا السؤال، وما زال مسافراً في مناكبه، يطوِّع أشياءه كلَّها للإجابة عنه، فكانت - أولاً - رسالته ل (الماجستير) في شعر (القرشي) و(العوّاد)، منطلقة من حاجة وطنية وثقافية أيضاً...، وكانت إجابة صغيرة وسريعة عن ذلك السؤال الكبير، وسداً لثغرة زيّنت له نفسه منازلتها، وهذا ملمح مهمّ سنربطه بملامح أخرى في الآتي...

بعد أنْ فرغَ (الفوزان) من (الماجستير) ووجه وجهه شطر (الدكتوراه)، تحرّك فيه السؤال مرة أخرى، ولكن بشكلٍ أكثر حدة وعنفواناً، فأحسّ هذه المرة بأنه في حاجة إلى مواجهة أكبر وأخطر، فاختار (الأدب الحجازي) موضوعاً لأطروحة (الدكتوراه)، مستثمراً ما تكشّف له عبر رسالة (الماجستير) من موضوعاته، وفنياته، وقضاياه، ومن أشياء كثيرة خارج أسوار النصّ، كان قد استبانها من خلال مروره ب (القرشي) و(العوّاد)...

وما أنْ استهلّ (الفوزان) حتى وجد نفسه محاطة بعدد من المصاعب، كان أكبرها ما يتعلّق بتوفّر المعلومات المهمة للدارس على مستوى المبدع وعلى مستوى الإبداع، وهو ما دفعه إلى اتخاذ المنهج التاريخي منهجاً لهذه الدراسة، ولدراساته اللاحقة...، وجاء كتابه هذا ليؤسِّس قاعدة واسعة للدراسة النصية أيا كان اتجاهها المنهجي...، واستمرّ على هذه المنهجية في كتبه اللاحقة كلِّها دون استثناء، نقرأ له:

« وقد دعاني إلى هذا العمل الحرص على تزويد المتلقي في المملكة العربية السعودية وغيرها بما يتطلّع إليه للتعرّف على أعلام الشعر في المنطقة الشرقية...، وليتمكن المقوِّم من التصوّر المصحوب بالدليل على بيئة الشعر وأعلامه وموضوعاته وخصائصه الفنية، وإدراك الأغراض التي تميّزوا فيها عن غيرهم...» (2).

لقد انقطع في كتبه كلِّها إلى هذا المنهج انقطاعاً كاملاً وإن كانت مقدِّمات بعض كتبه تشير إلى استحضار مناهج أخرى تشكِّل مجتمعة ما يسميه بالمنهج التكاملي (3)، ولهذا أيضا دلالة ستأتي لاحقاً، وإن كنت أرى أن المنهج التاريخي لم يكن محدّداً في أي من كتبه.

فيما بعد (الأدب الحجازي) و(العوامل الثقافية) أصدر (الفوزان) جملة من الكتب، هي:

- بحوث في الأدب وعوامل نهضته.

- مرحلة التقليد المتطوِّر في الشعر السعودي الحديث في منطقة نجد.

- شعراء مرحلة التقليد المتطوِّر وشعرهم في المنطقة الشرقية.

- دول الخليج العربية وعوامل نهضتها الثقافية الحديثة.

وله كتب أخرى، بعضها طبع، وبعضها تحت الطبع، وبعضها الثالث تحت الإعداد...

وجملة هذه الكتب تتفق مع الكتاب الأمِّ (الأدب الحجازي) في أشياء، أهمُّها الآتي:

أولاً: انقطاعها إلى المنهج التاريخي جملة، فهي لا تستحضر غيره من المناهج، ولا ترومها أصلاً (وقد أسلفت أنّ المنهج لم يكن محدداً بما يكفي).

ثانياً: تعاطيها مع المبدع وفضاءات الإبداع الخارجية أكثر من تعاطيها مع الإبداع وفضاءاته الداخلية المتنوِّعة، وهنا نلحظ أنّ النصِّ الشعري يجيء لتدعيم بعض الأفكار النقدية لا لتوليدها.

ثالثاً: قيامها على غاية واحدة، هي إثبات قدرة أبناء وبنات هذا الوطن على الإبداع، وأنهم لا يقلّون عن أبناء وبنات الأقاليم العربية الأخرى ثراء في مجال الأدب، حتى وإن تجاوزت هذه الغاية التي يصبو إليها الكثير من العثرات الفنية التي قد تُخرِج الإبداعَ من حدود الأدب، وقد بدا لي أنّ (الفوزان) ينطلق كثيراً من العنصر الكمي (كثرة شعر الشاعر - طول قصائده - كثرة الدواوين الشعرية في إقليم معيّن) في قوله بثراء الشعر السعودي - والأدب بشكلٍ عام -.

إنّ اتفاق كتبه كلِّها على هذه السمات يدفعنا إلى طرح سؤال مهمّ، هو: هل كان (الفوزان) ينسخ نفسه؟ ويعيد إصدار كتبه بعناوينَ مختلفة؟ هذا ما لا تستطيع الإجابة عنه مقالة عابرة كهذه، لكنّ الذي أقدِّره أنّ (الفوزان) واحدٌ من أهمِّ الذين طوّعوا الأدبَ والنقدَ لمصلحة الوطن، حتى لو كان هذا التطويع يجري في غير مصلحة الأدب نفسه!!

ورغم تحفّظات بعض النقّاد على المنهج الذي اعتمده (الفوزان)، والمنهجية التي سار في ركابها، فإنّه كان مصيباً - من وجهة نظري - في ذلك كلِّه؛ لجملة دواعٍ ما يزال بعضنا يتجاهلها، أهمها: أنّ هناك حاجة حقيقية لاختيار هذا المنهج، وسلوك هذه المنهجية، قبل ثلاثين عاماً أو أكثر، ومعرفياً لا يجوز أنْ نقيس نتاج سياق ثقافي بمعايير تمخضت عن سياق ثقافي لاحق، وهذا ما يجعلني أشيد بمشروع (الفوزان)، في الوقت الذي أنتقد فيه مشروعات بعض تلامذته؛ لكونها أنجزت خارج الزمن، أي إنها لم تخدم زمنها كما خدم مشروع (الفوزان) زمنه!

وأضيف أيضا أنّ السؤال الذي تصدى (الفوزان) للإجابة عنه - أشرت إليه سلفاً - لا يصلح له إلا هذا المنهج، بل ليس هناك منهج سواه يملك الإجابة عنه بالشكل الذي يتطلّع إليه (الفوزان) نفسه، بل ربما أدى الاعتماد على المناهج الأخرى - والنصية منها تحديداً - إلى إغلاق ملفِّ هذا السؤال بشكلٍ سلبي.

من كلِّ ما مضى أنتهي إلى أنّ (الفوزان) كان ينطلق في أحكامه النقدية من منطلق وطني، يرى فيه أنّ تجميلَ صورة الأدب السعودي في أعين التلاميذ، والرفعَ من شأنه في المحافل العربية، واجبٌ وطني، لا يُعْذر الناقدُ في التفريط فيه، بل قد يكون مداناً - من وجهة نظر (الفوزان) - إن هو حطّ من شأن هذا الأدب بشكل أو بآخر حتى لو اتكأ على معطيات نصية مقنعة، وهذا ما عبر عنه قبل ثلاثة وثلاثين عاما في بحث له بعنوان (التواضع المرفوض والحقائق الموؤودة) (4).

هوامش:

(1) - الفوزان، الأدب الحجازي، ج1، ص5.

(2) - الفوزان، شعراء مرحلة التقليد المتط وِّر وشعرهم في المنطقة الشرقية، ص9 - 10.

(3) - انظر: الفوزان، الأدب الحجازي الحديث، ج1، ص14.

(4) - انظر: مجلة جامعة الإمام، ع، في: 1976م.

يتبع

بريدة alrafai16@hotmail.com
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة