Culture Magazine Thursday  28/01/2010 G Issue 296
الملف
الخميس 13 ,صفر 1431   العدد  296
 
ما بين المشري والبشري
محمد بن عبدالرزاق القشعمي

في الوقت الذي كنت أنوي فيه الكتابة عن الصديق الراحل عبدالعزيز مشري، بمناسبة مرور عشر سنوات على فراقه (5-2-1421هـ - 7-5-2000م)، وإذ بالصديق مروان المعيوف يهديني صورة لكتاب (السخرية في الأدب العربي الحديث: عبدالعزيز البشري نموذجاً) للدكتورة سها عبدالستار السطوحي.. وقد أعجبني، إذ وجدت به كثيراً من الصور والملامح المشتركة بينه وبين المشري، فقررت أن أكتب مقارناً بين الشخصيتين بدءاً باسمهما الذي لا يفرق بينهما إلا حرف واحد هو: الميم بالمشري والباء بالبشري، وكلاهما تسمى عبدالعزيز. وكلاهما توفي مبكرا فالبشري (1886-1943م) توفي وعمره سبعة وخمسون عاما، والمشري (1953-2000م) توفي وعمره سبعة وأربعون عاما. مضى على وفاة البشري سبعة وسبعون عاما وعلى وفاة المشري عشرة أعوام.. عليهما رحمة الله.

هناك الكثير من الصفات التي يلتقيان فيها، ولنبدأ بالسخرية، فالبشري يستضحك بنوادره الباكي، فقد ورث هذه الدعابة من الطبع المصري المرهف، وظهورها في أسلوب البشري راجع لسببين أحدهما فطري والآخر مكتسب، أما الفطري فيرجع إلى استعداده النفسي والعقلي المتمثل في الذكاء وسرعة الخاطر وحضور البديهة، وأما المكتسب فيرجع إلى كثرة قراءاته واطلاعاته على كتب التراث مثل: كتب الجاحظ والأغاني لأبي الفرج الأصفهاني وغيرها. (ص109)؛ لهذا فقد أصبح البشري جاحظ العصر الحديث وسيد الظرفاء والساخرين، وقد كانت سخرية البشري حقاً سخرية بناءة، فقد كان يسخر ليبني، ولا يسخر ليهدم، يسخر ليصل بمخاطبيه إلى حد المثالية، لا ليظهر العيوب فيجرح أو يؤذي (ص5). وقد كان يسخر من الإنجليز ومن استعمارهم لمصر فكانت السخرية متنفساً ومخرجاً لهم من شقائهم وعذابهم بالاستعمار.

وقد أكد الباحثون فيما بعد أن البشري عاش مغبوناً، ولم يكن بعد وفاته أقل غبناً ولا ظلماً.

وإذا علمنا بأن الأستاذ عبدالعزيز البشري قد تأثر بوالده الشيخ سليم الذي تولى مشيخة الأزهر مرتين الأولى عام 1317هـ وحتى عام 1320هـ والثانية كانت عام 1327هـ حتى وفاته 1335هـ، والذي عمل على تطوير الأزهر بإدخال العلوم الحديثة إذ كان ذا عقلية متفتحة فقام بتخصيص ميزانية خاصة للأزهر من ميزانية الدولة، كما شكّل هيئة كبار العلماء والمجلس الأعلى للأزهر. وصار رئيساً للمجمع اللغوي عام 1917م بدار الكتب، وقد سار عبدالعزيز وفق رغبة والده فدرس في الأزهر وتشرب روح العلوم الأزهرية، ولكن بعقلية متفتحة، (.. وكانت النهضة الحديثة قد بدأت تلقي بأضوائها بين أرجاء الأزهر، بين طائفة قليلة من الطلاب وطائفة أقل من الشيوخ، ولم يلبث إبراهيم المويلحي أن أصدر صحيفته الأسبوعية (مصباح الشرق) وفيها نقد للشخصيات المصرية في القرن التاسع عشر، وفيها حديث عيسى بن هشام لمحمد المويلحي بأسلوبه التهكمي الجزل.

وهكذا فتن عبدالعزيز البشري منذ صغره بالأدب والأدباء فبدأ ينصرف عن حلقات الدرس في الأزهر ويراسل الصحف الأدبية القائمة وقتها..) (ص77).

ومثله كان سميَه (عبدالعزيز المشري)؛ إذ ولد عام 1374هـ في قريته (محضرة) في بلاد غامد بمنطقة الباحة جنوب المملكة، وبدأ تعليمه في هذه القرية النائية، وبدأ ينهش جسمه الغض المرض بدءاً بالسكر. ومع ذلك عاش في حضن جده محمد، أما والده صالح والذي يعمل سائقاً لسيارة أجرة في مدينة جدة، فحاول أن يوفر قدر المستطاع ما يجمعه من دخل شحيح ليرسل متطلبات الحياة لأهله ولابنه ما يحتاجه من أدوية لمعالجة مرضه، وكان يوصيه بإرسال بعض الكتب، وبالذات مجلة العربي الكويتية والتي كان لها الأثر البالغ في حياته.. بدأ صغيراً يتعلم الرسم بدءاً بجذوع الشجر، فكان يغرس المطوى - السكين الصغيرة - في جذعها ويشكل من عمله هذا شكلاً جمالياً سريعاً ما ينقله إلى الأوراق، وبلغ به الطموح إلى أن يجمع ما أعجبه من قصص وحكم وقصائد العرب القدماء ويطبعه تحت عنوان (باقة من تاريخ أدب العرب) وهو عبارة عن مختارات تأسيسية من نصوص التراث العربي. ويهديها لأمير المنطقة سعود السديري قائلاً: إلى الذي شجعني وأولاني الرعاية التي لم أكن أحلم بها. وساعدني في محنتي العصيبة، عندما كان المرض يحطم جسمي ويهد أملي. إلى سعود السديري أمير منطقة الباحة. نعود لسميَه (البشري) الذي قال عنه أصحابه إنه حسن العشرة، بارع الحديث، عذب النفس، خفيف الروح، يجيد المفاكهة ويستضحك بنوادره الباكي الحزين ولهذه الأسباب كان محبباً إلى النفوس أثيراً في القلوب.. الخ.

وقد اشتهر البشري بولعه بالفن والطرب وسماع الأغاني منذ صباه، وقد أدرك من المطربين عبده الحامولي ومحمد عثمان وعبدالحي حلمي، وقال إنه اهتدى إلى الشيخ سيد درويش عندما كان غلاماً يافعاً يقابل بالنقد عندما يغني في الإسكندرية فنصحه بالذهاب للقاهرة فهي عاصمة البلاد وفيها متسع لقدره.. وقد عمل بنصيحته فانطلق إلى القارة حيث واتته الفرصة والشهرة هناك (ص83).

ومثله (المشري) إذ كان يعزف على آلة العود ويدندن بها وقت فراغه، وبالذات بعد انتقاله من المنطقة الجنوبية إلى المنطقة الشرقية -الدمام- حيث عمل في جريدة اليوم من عام 1395هـ إلى عام 1399هـ وكان يغني بعض الأغاني الشعبية، وقد تعلق بأغنية سميرة توفيق (بين الدوالي - والكرم العالي)، وقد عرف بعض هواة الطرب في المنطقة مثل: حسين قريش ومحروس الهاجري وعبدالرحمن الحمد - وكان يقول: لو كان هؤلاء في العاصمة أو على الأقل في المنطقة الغربية لكان لهم شأن في عالم الفن والطرب..

أما (البشري) فخلال تطور الصحافة الأدبية في مصر بدأ بالكتابة ب الهلال والمقتطف والرسالة والسياسة الأسبوعية والأهرام والمصري وغيرها، كما كان له دور ومشاركة في الصالونات الأدبية، مثل صالون الأميرة نازلي فاضل التي تعد أول سيدة في مصر تفتح صالونها للرجال، وكان من رواد صالونها أقطاب السياسة والفكر مثل الشيخ محمد عبده وسعد زغلول وقاسم أمين وغيرهم. تبعه صالون الأديبة، مي زيادة ومن رواده أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وخليل مطران والرافعي والعقاد وغيرهم.

وأخيراً فعبدالعزيز البشري أديب متعدد المواهب متعدد المزايا، صاحب مذهب في الأسلوب اللاذع والنقد، قلما يجاريه فيه أحد كتابنا اليوم، وأدب البشري من النوع الذي يخاطب جميع الطبقات، وهذه ميزة لا تتوافر إلا للقليل من الكتَاب.

ولهذا يقول عنه طه حسين: (.. وأخص ما يمتاز به أدب عبدالعزيز أنه حلو سمح خفيف الروح، لا يجد قارئه مشقةً في قراءته، ولا جهداً في فهمه، ولا عناءً في تذوقه وتمثله..) ص89.

أما عبدالعزيز المشري.. فقد كان لا يختلف كثيراً عما كان عليه سميه (عبدالعزيز البشري)، لقد كان رغم ما يعانيه من أمراض.. وبالذات في آخر حياته.. إذ فقد بصره وزراعة كلية وقطع الكثير من أجزائه بدءاً بأصبع يده اليسرى والتي كان يقول عنها مازحاً: إنها عقوبة إذ كان هذا الإصبع هو الذي يدوزن به آلة العود أو ينقلها بين الأوتار عندما يغني.. ثم قطعت رجله اليمنى ولحقت بها اليسرى.. ومع ذلك لا تفارقه روح النكتة.. ومواصلة الكتابة.. إذ له زاوية أسبوعية في أكثر الصحف السعودية، وبالذات الرياض والجزيرة وعكاظ والمدينة واليمامة واليوم، حيث أشرف على ملحقها الثقافي الشهير (المربد) من عام 75-1980م.

حاول وكتب بعض القصائد.. وله رسوم تشكيلية جميلة.. وكتب في القصة القصيرة والرواية بدءاً من (الوسمية) التي كتبها ونشرها بالقاهرة أثناء إقامته بها بدار شهدي للنشر عام 1985م، والتي قال عنها الناقد الأستاذ عابد خزندار في ملحق جريدة اليوم (ثقافة اليوم) الخميس 27 شعبان 1408هـ 14 أبريل 1988م قال: الراوي.. قال المشري.. الوسمية رواية تقترب من العالمية.. لابد من تقديم شكل جديد ليعترف الغرب بنا..).

وقال: (.. ورواية الوسمية وقد أحسست عندما فرغت من قراءتها أنني إزاء عمل أدبي لا يرقى إلى مستوى (الطوق والأسورة) فحسب، بل يكاد يرقى إلى مستوى أي عمل أدبي عالمي كرواية (مائة عام من العزلة) لماركيز والفرق بين هذه الرواية وبين (الوسمية) هي أن الأولى ثروة الأحداث والوقائع والفانتازيا الأمر الذي يجعلها تبدو وكأنها عمل سحري أو تخيلي ليس بمقدور أي كاتب عادي أو حتى جيد بأن يأتي بمثله..).

والمشري كما عشته وعايشته كان مرحاً وكثيراً ما يجمع الجد بالهزل ويصطنع شيئاً من المقالب، سواء بالقول أو الفعل، ويتصنع اللهجة الشامية أو المصرية من باب التمويه.. ومثله من سبقه (البشري) إذ ورد في دائرة المعارف العربية، ج1: (.. وعاش البشري بروحه فترة من الوقت مع الباعة الجوالين، وماسحي الأحذية، والشحاذين، وتقلب معهم في حياتهم وأحوالهم في هذا الباب، فرسم على ثغورنا كثيراً من البسمات، وبعث في صدورنا كثيراً من الانشراح..).

أما (المشري) فنجد الدكتور معجب الزهراني يقول عنه في (قاموس الأدب العربي الحديث) تتميز لغة المشري باحتفائها بالتعبيرات الشائعة في الحياة اليومية سواء في الريف أو في المدينة، أما ميزتها الكبرى فتتمثل في نزوعها الأصيل إلى منطق المفارقات الساخرة التي تكتسب النص جاذبية بقدر ما تثري المعنى وتوسع مجال الدلالات.. وفي الختام نجد عبدالرحيم الجمل يقول في قاموس الأدب.. عن سميه البشري: (.. نظم الشعر في شبابه ثم عدل عنه إلى النثر، وكان فيه تلميذاً وفياً لأستاذه الجاحظ، وتهكمه اللاذع، وموضوعاته الشائعة الطريفة في البخل والتطفل والتنقل من موضوع إلى موضوع ومن باب إلى باب في أسلوب خلاب وعبارة ناصعة، وفكر أصيل..

أما خير الدين الزركلي فيقول عنه في الأعلام م4 (.. كان مرحاً طروباً، حلو العشرة شريف النفس، نظم الشعر في شبابه، ثم عدل عنه إلى النثر. قال عالم بالأدب في جريدة البلاغ ( استحدث البشري في أساليب العربية أسلوباً فذاً أضفى عليه روحه المرحة وعلمه الواسع وذوقه السليم ما تفرد به بين الكتَاب..).

وقد مرض مرضاً شديداً ألزمه الفراش لمدة ثلاثة أشهر فاستجاب لإلحاح بعض أصدقائه أن يجمع مقالاته في كتاب سماه المختار، صدر منه جزآن، إضافة لكتب أخرى: في المرآة وقطوف وكتاب التربية الوطنية.

أما المشري فقد صدرت له المجموعات القصصية التالية: موت على الماء، أسفار السروي، بوح السنابل، الزهور تبحث عن آنية، أحوال الديار، جاردينيا تتثاءب في النافذة.

كما صدرت له من الروايات: الوسمية، الغيوم ومنابت الشجر، ريح الكادي، الحصون، في عشق حتى، صالحة.

كما صدر له أيضاً في مجال السيرة الذاتية (مكاشفات السيف والوردة). وله مخطوطات لم تطبع بعد وهي:

- القصة القصيرة في المملكة.

- ترنيمة - نصوص شعرية.

وترك عدداً كبيراً من اللوحات الزيتية والرسومات المخطوطة.. أما روايته التي مات قبل أن تستكمل وهي: (المغزول) فقد أصدرها صديقه الأستاذ علي الدميني عام 2006م، والذي قال في مقدمتها: (.. لم يشتك عبدالعزيز من المرض، ولم يضعف أمام جبروته، بل كان يفلسفه ويطبق في واقعه فلسفة القدرة على احتماله، مؤكداً دائماً على أن المرض حالة يومية اعتيادية، كالنوم، والأكل، والاستمتاع. ولقد كان أقسى ما يزعجه ما يراه من نظرات شفقة باردة من بعض المحيطين به، ولذا كان المرض عنده مصهراً لتطهير الروح، وملاذاً للانفراد بالنفس وحب الحياة بكل تفاصيلها، حيث يوجه خطابه لكل مريض: (لا تخف من الموت... ليس لأنك لن تموت، بل لأنك لا تزال تدرك معنى الحياة).

وختاماً ومن المفارقات العجيبة أن نجد اسمي والديهما أيضاً بعدد الحروف نفسه وبالمعنى نفسه كذلك عبدالعزيز سليم البشري وعبدالعزيز صالح المشري، فلا فرق بينهما إلا الباء بالأول والميم بالثاني.. إنه حقاً عالم غريب عجيب!

Abo-yarob.kashami@hotmail.com * الرياض
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة