أمضيت أسبوع الإجازة في اليمن السعيد.. ستة أيام أمضيتها في التنقل في ربوع اليمن الخضراء.. إنها بلاد اليمين بالنسبة إلى موقع بيت الله الحرام.. بلاد اليمن والخير كما دعاها العرب.
وهذه هي الزيارة الأولى التي أقوم بها إلى هذا الوطن العزيز.
ذهبت إليها وأنا أحمل صورة نمطية عن الرجل اليمني، وحينما توغلت في المجتمع اليمني وجدت نفسي أكتشف وجهاً آخر للإنسان هناك، وجهاً يحمل ملامح الطيبة والكرم وتقدير أخوة العروبة والإسلام وحق الجوار.
أينما يقابلك الإنسان في اليمن تجده مفعماً بالود والتقدير للمواطن السعودي، وكانت عبارة «السعودي فوق رأسي» عبارة تتردد على لسان المواطن البسيط، وهي تدل على هذا الشعور الصادق والتقدير العميق لأخيه السعودي.
وتزامنت زيارتي مع موسم أمطار غزيرة؛ حيث كانت زخات المطر تهطل كل يوم، وقد رسمت فيها المياه مع ألوان الطبيعة لوحات جمالية من الشلالات، وتأثرت أجواء اليمن بهذه الأمطار ومالت إلى البرودة، بيد أن دفء المشاعر التي يقابل بها الزائر لليمن وحرارة الأخوّة والمودة تزيل أثر هذه البرودة. كانت عبارات الترحيب مسهبة ضافية تقطر فيها نفوس أهل اليمن الأوفياء. كانت السحب الرقيقة الشفيفة تلف مدن اليمن: صنعاء وذمار وإب وغيرها.. وتحيلها إلى مدن بيضاء تحاكي بياض قلوب الأخوة في اليمن السعيد.
وقد خصصت جزءاً من وقتي لزيارة مدينة إب، هذه المدينة التي تمشطها السحب كل يوم وتبدو مدينة خلابة تتيه جمالاً ودلالاً. شلالات وادي «بعدان» ووادي «بنا» لوحات فنية أبدعها الخالق سبحانه، وكذلك وادي عنه بمياهه المنسابة الرقراقة التي لا يشبهها إلا نقاء أهل اليمن وصفاء نفوسهم.
واليمن تنطوي على إرث حضاري ثر، وهي تتحفز بقيادة الرئيس علي عبد الله صالح لنهضة حضارية وتنموية. لذلك فهي تمتلك مقومات السياحة على مستويات عالية. لكن الوعي الثقافي بأهمية السياحة من الأمور التي يفتقر إليها المجتمع اليمني. رغم أن لها عوائد اقتصادية وثقافية.
الدكتور عبد العزيز المقالح الشاعر المعروف رمز اليمن الثقافي، والمعادل الموضوعي للحركة الأدبية في اليمن. وأي مهتم بالأدب لا تكتمل صورة اليمن الثقافي في ذهنه إلا بزيارة المقالح لذلك وضعت في أولويات برنامج الزيارة اللقاء بالدكتور المقالح. وقد رتب أخي عبد الله الذي انتدب للتدريس في صنعاء لهذه الزيارة.
ذهبت إليه في مكتبه في «مركز الدراسات والبحوث اليمني» ووجدت رجلاً أربى على السبعين لكن هذه السنون لم تخف حيوية فكرية، وتوهجاً إبداعياً.
ولقد كانت مفاجأة كبيرة لي أن أقابل الشاعر الكبير المقالح الذي أحبُّ شعره وأقرأ مقالاته، ولكنني لم يسبق لي أن التقيته. كان المقالح متابعاً للحراك الأدبي في السعودية وكان على صلة وثيقة ببعض الأدباء، فهو يحمل حباً عميقاً لكل ما هو سعودي، لذلك كان اللقاء مفعماً بالأخوة والمودة.
اشتهر المقالح بغزارة إنتاجه الشعري والنقدي والفكري معاً، وتمخضت موهبته الإبداعية عن خمسة عشر ديواناً شعرياً وربما تزيد، أولها ديوان «لابد من صنعاء» 1971، وليس آخرها ديوان «كتاب الأم» 2009
. وقد زرت المقالح وهو يشعر بكثير من البهجة والرضا، فقد حصل على جائزة العويس لهذا العام، وكرِّم من قبل مركز دراسات الوحدة العربية بوصفه الشخصية الثقافية لعام 2010م. وحُظي شعر المقالح بكثير من التقدير وتوقف كثير من النقاد عند تجربته الإبداعية. أشير هنا بشكل خاص إلى ما كتبه الدكتور عبد الملك مرتاض عنه، فقد كان من أكثر النقاد اهتماماً بتجربة المقالح الشعرية ودراستها وتحليلها.
وإلى جانب هذه التجربة الشعرية الثرية، ألف المقالح مجموعة من الكتب، وكتب كثيراً من المقالات، فللمقالح فضلاً عن مئات المقالات والمقدمات النقدية - تسعة وعشرون كتابا ودراسة نقدية وفكرية - تتضمن رؤى شتى وأفكاراً متنوعة يمكن أن تشكل نظرية نقدية متكاملة.
وهناك دراسات تناولت الجانب النقدي والفكري للدكتور المقالح أشير إلى دراسة الدكتور ثابت محمد بداري (عبد العزيز المقالح وتأصيل النقد الأدبي الحديث في اليمن) وهي أهم الدراسات وأكثرها استيعاباً وكشفاً لبعض ملامح نقد المقالح، وللدكتور عبد السلام الشاذلي دراسة عامة بعنوان «المقالح ناقداً».
وقد التقيت الدكتور عبد الواسع الحميري أحد تلامذة المقالح رئيس منتدى الناقد العربي وعميد كلية التربية والآداب والعلوم في مأرب. وهو ناقد جاد ألف مجموعة من الكتب التي تتعامل مع النص الأبي بوصفه خطاباً يحمل رؤية خاصة تجاه العالم. ودار الحديث حول أهمية تعزيز العلاقة الثقافية بين المملكة العربية السعودية وجمهورية اليمن الشقيقة. لقد أحسست من خلال حواراتي مع المثقفين في اليمن أنّ المثقف اليمنيّ مستلب بنسق الثّقافة التّقليديّة السّائدة، ومستلب بجملة من الأوضاع الاجتماعية التي تمارس الإقصاء والتهميش والتجاهل لحقوق الأديب والمفكر.
بيد أن الأدباء والمفكرين يجاهدون لصياغة فكر وإبداع متميزين. وكان المثقف اليمني يعول على شعارات الوحدة التي رفعتها السلطة، بيد أن هذه الشعارات -رغم نبالة المقصد - ظلت تراوح لفترات طويلة في المسافة بين الواقع والحلم. ورغم ذلك ينظر المثقف اليمني إلى المستقبل عبر طموح تعززه الإمكانات البشرية والوحدة الوطنية لليمن السعيد التي تعد الثروة الحقيقة لليمن الراهن.
إن المثقف السعودي يشعر بالخجل حينما يجد أنه يجهل كثيراً من مظاهر الثقافة في بقاع عزيزة من الوطن العربي. وإننا بحاجة إلى تكثيف الزيارات المتبادلة بين الأدباء والمفكرين العرب، وتنظيم الأسابيع الثقافية لشرائح واسعة من المثقفين لكي يكوّن الأغلبية منا فكرة واضحة عن آداب أشقائهم العرب.
نادي القصيم الأدبي - جامعة القصيم
-hamad79@hotmail.com -DR
بريدة