الشجن حزن ومدشى، والرجع ترجيع وصدى.. وبين الحالتين السيرة والصورة يتشكل الخطاب محملاً بكل أثقال الحركة الحياتية إيحائية كانت أم وجدانية.. ذلك أن الحياة حركة.. والخطاب أداة طرح للتعبير عنها بأكثر من لغة.. وأكثر من ترجيع لإيقاعات ذلك الخطاب.
النداء الأخير.. كما اختاره أولاً:
تفجرت في فمي يا حلوتي الجمل
وأسود في ناظري الحلم والأمل
لا تطلبي من أسير الحزن قافية
تشدو بحسنك أو يشدو بها الغزل
يا حلوتي كيف لا يغتالني ألمي
وكيف لا يحتوي أيامي الملل
ألم ضمير.. وحزن مشاعر لا مكان له في أدبيات الغزل.. يشير إليه في جلاء ووضوح..
أما ترين كلاب الصرب تنهش من
أعراضنا مالنا في أمرنا حيل
ونضب أعيننا أطفالنا ذبحوا
فاستعرضت دمعنا من حزنها المقل
قل ذئاباً.. لا كلاباً.. الكلاب أرحم وأدعى للوفاء من ذباب الغابة البشرية يطوف عبر خيال شعره في أكثر مكان، ولأكثر من زمان.. فلسطين بجرحها النازف ماثلة أمام عينيه لا تبرح مكانها.. يغالبه ألمه.. ويستنهضه قلمه
نطهر المسجد الأقصى ويحرسه
منا رجال توارى عنهم الكلل
أما إذا لم يكن فالضغث يا قلمي
أولى إلى أن يواري حزنك الأجل
شاعرنا الآخر يستنهض همم أمته بمقولته..
وإذا لم يكن من الموت بد
فمن العار أن تموت جباناً
خوفه على قلمه من عضة ألمه جعلته يتفاءل.. والحياة دون فأل موت..
كسرت على صخر الهموم دواتي
وتناثرت في قفرها كلماتي
لم يبق في كفي سوى قلمي فما
جدوى اليراع وقد فقدت دوائي
قل أيها القلم الوفي تساءل
عن سر هذا الحزن في أبياتي
قل أن شعري نزف قلب موجع
رقصت على أنغامه أناتي
إني قضيت مع الأسى عمري فما
دانت له طول الحياة قناتي
حسناً مواجهة المبؤس بالبأس.. ومع تجاربه الحياتية يتحدث رفيق رحلتنا الزهراني:
إن التجارب علمتني بعدما
عايشتها أن المطامع تهتك
وعلمت أن رضا الأنام جميعهم
مهما تحاول غاية لا تدرك..
وألد أعدائي الذي في صدره
حقد على فمن رآني يضحك
يخفي خديعته ببسمة ثغره
فإذا أمنت له بصدق يفتك
صورة تأملية موفقة من تجارب حياته.. تأخذنا إلى تأملاته الوجدانية مع ليلاه وهو يطرح عليها سؤاله:
ليلاي هل قتل المحب مباح؟
عمداً. ولم يذكر عليه جناح
أيباح يا ليلاي قتل مشرد
يطوي به كون الشجون جناح؟
إنه متيم بها إلى درجة سحقت الأتراح حصون سروره.. وأضرمت عيناها نار الشوق في دمه.. وأمدت قلمه بطاقة المداد الجادة.
مازلت ملهمتي فكل قصائدي
من وجنتيك غيرها ينداح
في كل قافية جمالك راقص
ويفوح منها عطرك الفواح
مع سراب العمر ذرف دموع الندم:
ما بال شمسي للغروب تميل؟
وزهور روضي غالهن ذبول؟
والنفس ملت كل شيء حولها
والقلب من كثر الهموم عليل
والجسم بعد فتوة ونضارة
خارت قواه اليوم فهو هزيل
والبدر بعد تمامه في ليلتي
أضحى هلاك يعتريه نحول..
وعلمت أن العمر يشبه رحلة
ولربما فوق التراب تطول
للعمر محطاته الثلاث.. هلال يجسد الطفولة.. وبدر يمثل الرجولة.. وهلال جديد يعني الكهولة. واحتجاب عن الظهور يشير إلى الموت.
أتجاوز مع شاعرنا بعضاً من محطاته الشعرية.. ويستوقفنا هذا العنوان «يا لساني ماذا أرى في زماني؟»
يالساني جد لي بأحلى المعاني
أنت في ساحة البيان حصاني
يا لساني ماذا أرى في زماني؟
كيف أشكو للناس عما أعاني
أي عصر هذا الذي نحن فيه؟
أي شعر نراه كالطيلسان
تساؤل استفزه وهو يشاهد. ويسمع. ويقرأ الغث والرديء مما يقال. وينشر ويجد من يصفق له ويشيد بجزالته وجمالياته.. ويتساءل:
فمتى تنقذ القوافي ويغدو
جيد الشعر كاسباً للرهان..
البقاء دائماً للأصلح.. وليس للأسلخ:
يبحث رفيقنا في الرحلة عما تخفيه الابتسامة خلفها:
يا قلب من طلب الكمال سيتعب
لا شيء في الدنيا يدوم ويعذب
أنسيت يا قلبي بأنك راحل
منها وكل لذيذ عيش يذهب
لا تأمن الدنيا إذا ابتسمت لنا
يوماً فخلف الابتسامة عقرب
نعم.. مزاجية الحياة، متقلبة كمزاجية الجو.. يوم صحو.. وآخر غائم. يوم نضحك فيه.. وآخر نبكي لأحزانه، هكذا تحدث الشاعر:
فيوم علينا. ويوم لنا
ويوم نساء.. ويوم نسر
ومن مجهول يحجب عنا ما وراء الابتسامة الغامضة إلى دار الغرور.. كيف جاء المشهد؟! وكيف كان الشهود.. إنهم وفق توصيفه كثر.. كائن بأمانيه وأحلامه الكبيرة وآخر أصغر حلماً، وثالث يطلب مالاً. ورابع يحسب للمستقبل حسابه.
رأيت الناس أصنافاً كثيرة
وهم يسعون في دنيا حقيرة
فمنهم من يعيش بأمنيات
وآمال وأحلام كبيرة
يجاهد في الحياة بكل عزم
وينسى حجم حفرته الأخيرة
مواجع السفر لها فسحة ومكان في شعره:
ناح التداني وغنى البين يا سحر
وضمني بين فكي حزنه السفر
صغيرتي يا ملاذ الروح من كمد
بقاءها فيولي وجهها النضر
مدي إلى طيفها كفيك وانتزعي
رمح الأسى قبل أن يودي بها الضجر
صغيرتي ها أنا وحدي ومن قلمي
تنساب دمعة قلبي وهي تستعر
يا حسرتي حين يشدو الهم في كبدي
وخلفه نبضات الصبر تحتضر
صغيرتي ذبلت أنغام أغنيتي
وبات يشرب من أناتي الموتر
لأن ملهمته الصغيرة لم تعد إلى جانبه يضمها إلى صدره.. يداعبها ويلاعبها على كبر ما هي فإن لها نفس الشكوى ونفس البث:
عد لا تريد من الدنيا وزخرفها
سواك لا لسواك اليوم نفتقر
متى تكفكف ومع العين يا أبت؟
متى يعود إلى أحداقي البصر؟
عد مالنا عنك صبر كيف تتركنا
اللهم رحماك إنا يا أبي بشر
يبث شاعرنا الزهراني رسالته إلى القدس:
يا قدس عيني يراها الهم والسهر
وبات منها غزير الدمع ينهمر
لما أرى فيك من ظلم ومن عبث
شكا إلى الله منها الطير والشجر
وأمتي في سبات لا تؤرقها
شكواك إذ حام في أرجائك الخطر
لذا تراهم شتاتاً لا قرار لهم
وكلما خرجوا من عثرة عثروا
طوائف وضع الأعداء منهجها
للنيل منا فهل ترضى بما مكروا؟
قد كان في الأرض للإسلام منزلة
عليا بها في بقاع الأرض نفتخر
واليوم باتت قوى الإرهاب جاثمة
في أرضنا وتوالت نحوها الزمر
يا قدس هذا ابتلاء لا مرد له
إذا قضى الله ماذا يصنع البشر؟!
لا راد لقضاء الله وقدره.. هذا من حيث المبدأ.. ولكن ألم تقرأ قوله جل وعلا «وأعدو لهم ما استطعتم من قوة؟»
ألم تقرأ الآية الكريمة التي تحث على التوحد والتوحيد «واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا..
أخشى أن أقول إننا نسينا أو تناسينا أهم قواعد اللعبة في هذا العالم المسكون بغدره.. والمشحون بأطماعه..
نسينا أن العقيدة الإيمانية. والوطنية تفرض علينا أن نمتلك القوة.. وشجاعة الإرادة والموقف.. أن نحرر أنفسنا من قيود الضعف وصولاً إلى تحرير أواطننا المحتلة من ربق المحتلة.
لا شيء أقسى على المرء من أن يظلمه أقرب الناس وأحبهم إلى قلبه.
تجاهلني قوم يظنون إنني
أقمت لشيء من تجاهلهم وزنا
ولكنني أيقنت أني سبقتهم
وقد زادهم سبقي على حقدهم حزناً
فما حزني من ذمني وهو جاهل
وما زادني فخراً ثناء الذي أثنى
ولم أرَ ظلماً مثل ظلم أحبتي
رموا بسهام مزقت قلبي المضني
فما زلت في صبر عليهم وإنني
أقابل فعل السوء بالحلم والحسنى
إذا مزقوا أوتار عودي بكيدهم
عزفت على أوتار قلبي لهم لحناً
وإذا دمروا ركنا أجدت بناءه
أقمت لهم للفخر بين الورى ركنا
جميلة هذه المعزوفة الشعرية الراقية بتعابيرها، ومضامينها، وحسنا أن يقابل الواحد الإساءة بالإحسان.. ليت ابن الخليل يبعث حيا.. هذا هو العنوان لمحطة شعارها وطني:
عشت للفخر حرة يا بلادي
وحماكِ الإله كيد الأعادي
يا بلادي يا أطهر الأرض عشقي
أبدي ولهفتي في ازدياد
يا بلادي سمعي لصوتك مصغٍ
ولسانك بحبك العذب شادي
رسم المجد في جبينك شمساً
فأضاءت كل الربا والموهاد
وتسنمت قمة العز لما
خصكِ الله بالرسول الهادي
يا بلادي يا قبلة الكون ماذا
يكتب الشاعر المحب الصادي؟!
كيف أبدي مشاعري؟! إن شعري
عاجز عن بيان ما في فؤادي
عشتِ يا حاضر الشموخ ونهرا
سوف يُروى من طهره أولادي
بهذا الزخم من الانتماء والعشق رسمت ريشته لوحة بانورامية قزحية الألوان اجتزأت البعض منها وأورد شطر الخليل كما صاغه:
ليت أن الخليل يبعث حيا
ليرى الجمع والقوافي شواءِ
«لست أنسى هواك» مقطوعته ما قبل الأخيرة..
يا حبيبتي يا صفوة الأحباب
يا أنسي في وحدتي واغترابي
أنت عمري ومهجتي وحياتي
أنتِ نور أضاء درب شبابي
ما أنا في الوجود إلا سؤال
أنت يا فاتن الجمال جوابي
كنت في غيهب الهموم غريقاً
فسما بي هواك فوق السحاب
يا حبيبتي كنا كطفلين نلهو
في مروج الأزهار فوق الروالي
ثم حان الرحيل في يوم سوء
وافترقنا بحسرة واكتئاب
شاعرنا المقيم بعشقه ذلك الشاعر البدوي الذي مرت به نفس التجربة المُرة.. وقال مقولته المليئة بالحسرة.. والتمني:
صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا
إلى الآن لم نكبر، ولم يكبر البهم
أخيراً نقرأ معه المصير:
شغل الناس بالحياة وحادوا
عن طريق الإيمان والاستقامة
شغلتهم دنيا الغناء وباتوا
في صراع تلفهم دوامه
وتناسوا أن الحياة رحيل
دائم لا مقر فيها لهامه
كم غني يعيش في عيش عز
وتناسى أهوال يوم القيامه
ثم عادت به الحياة فقيراً
حافياً تنهش الحصى أقدامه
مضغة الحياة مضغا رهيبا
ثم ألقت إلى الهلاك عظامه
بعد طول الحياة واللهو فيها
سدد الموت للشقي سهامه
هذا هو المصير، الأجل المحتوم.. سهامه مسددة للأتقياء والأشقياء على حد سواء.. للصغار والكبار على حد سواء.. للرجال والنساء على حد سواء.. للأغنياء والفقراء على حد سواء، تلك هي عدالة قضاء الله وقدره.. وتلك هي نهاية عبيده وبشره.. أخيراً شكراً لشاعرنا حسن محمد حسن الزهراني الذي أخذنا معه في رحلة شاعرية عبر ديوانه «صدى الأشجان» والذي كان لنا منها الكثير من الأشجان مقرونة بالجزيل من الامتنان.
***
166 صفحة من القطع المتوسط
الرياض ص. ب 231185الرمز 11321 فاكس 2053338