يُحكى أنَّ رجلاً (أعمى) كان يعيش في مكان ما من هذه الدنيا حاله كحال بقية الناس، بيد أن فقدانه لبصره منذ ولادته حرمه من التمتع بِمشاهد هذه الدنيا الفاتنة، وظل على هذه الحال إلى أن جاء يوم ليس كبقية الأيام حدث فيه شيء عجيب، فقد قُدِّر له أن يعود نور بصره إليه لثوانٍ معدودة لم يلبث بعدها أن عاد (أعمى) كما كان، أما المشهد الذي رآه في تلك الثواني المعدودة فلم يكن سوى (رأس ديك) كان أمامه حينها، وقد ظل رأس هذا الديك في ذهن صاحبنا (الأعمى)، وظلت صورته تسيطر على عقله وفكره لسبب بسيط؛ هو أنه لم يرَ غيره في هذه الدنيا، وفي يوم من الأيام سمع صوت (سفينة) قادمة فاشتاق أن يتخيل شكلها ويتصور ماهيتها، ولما أخبره صاحبه عن تعذر وصفها له كونه (أعمى) لم ير شيئا قط في هذه الدنيا، قال له صاحبنا: كيف هي من (رأس الديك)؟ وما الفرق بينها وبينه؟ وأضحى هذا (الأعمى) كلما أراد أن يتعرَّف على شكل شيء أو أن يسأل عن وصفه وصفاته قال: كيف هو من (رأس الديك)؟
لا أدري لماذا أتذكر هذه الحكاية حين أمعن النظر في (المبادئ الكبرى) و(الأساسات الرئيسة) التي تتكئ عليها (المناهج النقدية) حتى أضحت (سِمةً مُميزة) بها و(خاصيةً معروفة) فيها، فلا يُذكر هذا المنهج أو ذاك إلا ويتبادر إلى الذهن تلك (السمة) و(الخاصية) التي تَجعله متفرداً عن بقية المناهج، مما يؤدي بذلك المنهج إلى أن ينظر إلى هذه (الخاصية) المميزة بشعار الإكبار والتقدير، وأن يَحشد لها كل مُقوِّمات البقاء والاستمرار، فلا يعترف ب(مُمارسة نقدية) إلا حين تكون متلبسة بتلك (الخاصية)، ولا يؤمن ب(قراءة خطاب أدبي) إلا عندما تطبق تلك (السمة) على هذه (القراءة)، بل ويسخر من كل (مقاربة نصية) إذا لم تكن مُشبعةً بذلك (المبدأ) الذي آمن به وراهن عليه.
والعجيب في الأمر أنَّ كلَّ (منهج) من هذه المناهج إنما ينشأ كردة فعل على سابقه، ويبني أساساته على أنقاض ما قبله، ويعزز (مبادئه) بناءً على تفنيد مبادئ أسلافه، ويؤكد على صلاح (استراتيجياته) اعتماداً على تأكيد فساد (استراتيجيات) المنهج البائد، وهكذا كلما خرج علينا منهج نقدي جديد وأطل علينا بِمبادئه وأفكاره اعتقدنا أنه الأصلح والأقوم، حتى يتبين فيما بعد فساده وتظهر عيوبه حين لفت أنظارنا المنهج الذي يليه.
ف(المناهج النقدية التقليدية القديمة) -التي أصبحت كذلك في نظر البعض حين يقارنها بالمناهج الأحدث- كانت تولي جزءا كبيرا من اهتمامها ب(الظروف الخارجية) للنص الإبداعي، وتعتني اعتناء كبيرا ب(الملابسات المحيطة) بالخطاب الأدبي بغية الوصول إلى فهم أكبر وقراءة أعمق، ف(المنهج التاريخي) كان يهتمُّ بسيرة المؤلف ومراحل نشأته وملابسات تأليفه وبيئته، بل إن بعض الرواد يرى أنَّ هذا المنهج يخضع لعوامل خارجية لا يمكن تفسير العمل الأدبي إلا بواسطتها، هي: (الجنس) و(البيئة) و(العصر)، ويرى أن (الأديب) مَحكومٌ بهذه العوامل الحتمية خاضعٌ لها، وبالتالي هو يدعو إلى (مقاربة) (النص الأدبي) اعتمادا على هذه العوامل، وهذه النظرة الضيقة للنص جعلت هذا المنهج يهمل (العمل الأدبي) من الداخل، ويغفل (بنيته اللغوية) التي تعد في الأساس خصيصته الأولى.
وإذا انتقلنا إلى (المنهج الاجتماعي) سنرى أنه ينشغل بما في النص من مضامين (اجتماعية) و(سياسية) ودور (الإيديولوجيا) فيه، ونجد أنه يُفسِّر (الأدب) اعتماداً على العوامل الثلاثة نفسها التي رأيناها عند (المنهج التاريخي)، بيد أنه يضيف إليها عاملا رابعا اقتصاديا يتمثل في (وسائل الإنتاج)، ولذلك نرى (الماركسيين) -وهم أبرز من تبنى هذا (المنهج النقدي)- يتعاملون مع (النص الأدبي) من الخارج منشغلين عن (جماليات) هذه النصوص وأشكالها التعبيرية، ويسرفون في تقدير دور (الإيديولوجيا) في الأدب، إلى الدرجة التي جعلتهم لا يعتدون بأي أدب لا يصدر عن الرؤية (الماركسية) للأدب حتى فرضوها فرضاً على الأدباء، متهمين كلَّ من خالفها بالرجعية والبرجوازية، بل بخيانة مبادئ (الحزب الشيوعي).
أما (المنهج النفسي) فقد فضَّل أن يصب كامل عنايته على (المبدع) وحده مركزاً على طبيعته النفسية وحياته وسيرته، فهو يحاول أن يتتبع حياة (المؤلفين) لإيجاد العلاقة بينهم وبين (أدبهم)، ودراسة سيرهم لاتخاذها وسائل لفهم (أعمالهم الأدبية) وتفسيرها، كما أن هذا المنهج أزال (المؤلف) عن دائرة الاهتمام ليركز على ما يُقدِّمه (الخطاب الأدبي) إلى (المتلقي) من متعة وإشباع لرغباته، حتى صار (العمل الأدبي) معه تَجربة يُعيد (المتلقي) بناءها ومعايشتها، بل وصل الأمر إلى أن تَحوَّل (النقد) مع هذا المنهج إلى تَحليلٍ (نفسيٍّ) لا (أدبي)، ضاعت بإزائه قيمته (الفنية) و(الجمالية) بين (التحليلات النفسية) والحديث عن (العقد والأمراض).
وفي النهاية اتفقت هذه المناهج في (قلة الاهتمام بالنص الأدبي) من (داخله)، وإهمال القيم (الجمالية) و(الفنية) التي يَحملها هذا (النص)، والتركيز على ملابسات (خارجية) وعوامل مؤثرة أخرى لا علاقة لها بالنص نفسه أو بنائه (الجمالي) وتشكيله (الأسلوبي) و(اللغوي)، وبالتالي الحكم عليه وتقويمه على هذا الأساس، وبسبب هذه (النظرة الأحادية) في التعامل مع النص الإبداعي لم تبقَ هذه المناهج، أو لنقل لم يستمر لها ذلك التوهج الذي كانت تتمتع به في أيامها، فقد أظهرت الأيام عوارها، وكشفت (المناهج الحديثة) عيوبها، حتى فقدت (بريقها) الذي كان يوماً متميزاً لامعا.
وبسبب هذه (الأحادية) (الصارخة) التي طبقتها هذه المناهج في (مقاربتها) للنص الأدبي وقراءته ونقده كان من الطبعي أن تواجه بكثير من الانتقادات التي كشفت العديد من العيوب التي كانت كفيلة بإفقادها ذلك (البريق) و(التوهج)، وبالتالي السير نحو (الاندثار) و(الانقراض)، كما كانت تلك العيوب كفيلةً كذلك بإعلان بداية (عهد جديد) لجيل من (المناهج النقدية الحديثة) التي لاحظت تلك العيوب، وأدركت تلك (الأحادية) التي تسببت في الفشل الذريع للمناهج التقليدية فحاولت تدارك كل ذلك وتجنب كل ما قد يؤدي إلى (عدم استمرارية) المنهج النقدي مدة طويلة، فما هي تلك المناهج؟ وهل تعلمت الدرس فعلا؟ وهل نجحت في الاستمرار والبقاء واحتفظت بتوهجها وبريقها الذي ابتدأت به؟ أرجو أن يكون الجزء القادم كفيلا ببيان ذلك.
Omar1401@gmail.com
الرياض