لم أكتب الحبَّ يوماً، ولم يُقرأ على مرآتيَ الحبُّ..
ولكنها، هي نفسها المرآة تتمثل في كل فراغ أصطدم به عائداً من مشوار لم يصل بي إلى أيّ مكان. كأنما كلّ الأماكن يستحيل الوصول إليها. أنا السائر وحدي والشفق اليوميّ دليلي على أن الزمانَ والمكانَ هما الزمانُ والمكانُ. لم يتغيّر شيءٌ منذ (خروجي من المرآة) مروراً ب(نصفِ كتابةٍ) وحتى (الكون والعدم)..
لم يتغيّر شيءٌ سوى القلم..
فالأوراقُ كما هي، بيضاء مصفرةٌ قليلاً، أو سمراء مبيضّةٌ قليلاً، ولكنها دائماً تستسلم لسوادٍ يجعلها أداةً لكحل يبحث عن عيون..
لماذا لم أكتب الحبَّ يوماً، ولماذا لم يُقرأ على مرآتي الحبُّ..؟
مرّةً، في منتصف الطريق بين البدء والمنتهى، قال لي صاحبي الذي كان يمشي معي:
قف مكانك
كي تقفَ الأرضُ مكانها
قف مكانك
كي تبدأ النجومُ دورانها
قالها وهو يهبط إلى أعمق البئر التي اعترضت طريقنا، فهتفتُ أناشده بالله: (جد لي حُبّاً من داخل هذا الجوف المظلم). ولكنّ صاحبي لم يخرج ثانيةً إليَّ..
ومنذ تلك اللحظة تعلمتُ ألاّ أناشد بالله أحداً غير الله.
قلتُ ذات قصيدةٍ:
(هي الحياةُ الآنَ أمُّكَ
والزمانُ أبوكَ، فاصرخْ
قل: وجدتُ الآنَ أهلي..)
ولكنّ الصراخ يذكرني بطفولة الأشياء، ولا شيء أمامي يستحقُّ ذكرى الطفولة، فالتزمتُ الصمتَ من دون أن أدري كم هو سارقٌ للعمر..
كم مرّةً أحببتَ في عمركَ؟ قالت لي المرآةُ
قفلتُ: تسعَ مرّات.
لم تسألني المرآةُ عن التفاصيل، كعادتها لا تهتمّ بالتهم التي تنسكبُ على رأس المدان، فقط قالت لي: حدثني عن أولها وآخرها ببضع كلمات.
فطفقتُ أكتبُ على المرآة:
(كنا صغاراً، نكسر الطرقات ذهاباً وإياباً، إلى أن كبرنا انكساراً، انكسرنا كباراً.. لماذا كبرنا؟)..
عبستْ في وجهي المرآة، وأومأتْ: ما عن هذا سألتك.
قلتُ: لستُ ممن يبوحون بالأسرار.
قالت: وهل على مرآتك أسرار..؟
قلتُ: حتى الشمس التي تعرفين كم تعرفنا، كلما زارتني في الليل أخفي عنها ما كان بيني وبين النهار.
(ما أطولَ صبركَ إذاً).. قالتها المرآةُ وهي تطفئ ملامحها لتتركني مع وجهي، أطالعُ في عينيَّ وجوهَ جميع من أحببتهم، وأتذكرُ أشياءَ نسيَها الجميعُ..
وأوّل شيء تذكرته:
(لثغة طفلٍ يفهمُ أن الصوتَ حلالٌ
حين يكون الصمتُ حراما..
يفهمُ أن الضوءَ سماءٌ
حين تكون الأرضُ ظلاما..)
وآخر الذكريات: وحدك.. كلّ الآيات منسوخةٌ بعدك.
- وماذا بعد؟
- بل أمّا بعد: تكبر الأشجارُ فينا، ولا تزال التربة التي نقف عليها في مهبّ الرياح.!
- هل تريدُ أن تقول..
- نعم أقولُ: كانَ اللحنُ عبقريّاً، ولكنّ العازفين فاشلون..
- وهل كنتَ في أوركسترا..؟!
- بل كانت دروبي كلها تتخذ شكل (الناي) وكنتُ أجيدُ العزفَ وحدي، ولكنّ أنفاسي كانت مسروقةً من صدري!
- فلماذا..؟
- لماذا كان الهواءُ المجانيُّ رديئاً جداً؟!
فيا أيتها النسورُ الجائعةُ قومي عن أعشاشك الصخرية المتفوّقة واضربي هذا الهواء المتدني الفاتر بأجنحتك القوية، وابحثي في الأرض عن جثامين جاهزة للالتهام.. واستطعميها، كيما أكتبُ شعراً في عاطفتك التي لم أجدها عند أحد ممن على الأرض يدبُّ..
ويا أيتها المرآةُ: افتحي لوجهي أبوابك كلها (ها قد نويتُ الرجوعَ) فلقد ضاق بي الكونُ الوسيعُ. ثم كان التوقيعُ: (هكذا أكتبُ حُبّاً، ويُقرأ على مرآتيَ حُبُّ..).
ffnff69@hotmail.com
الرياض