لما انبرى لكشف أوجه الهشاشة في القياس المنطقي بشقيه السالب والموجب, وعمل على الحد من تعاطيه وتقييد انطلاقته لا إلغائه بالكلية كما مضى تقريره مرارا، سوّق بعد ذلك للقياس القرآني العقلي المتمثل في قياس الأولى كمعادل موضوعي يفترض إعلاء مستوى الحفاوة بحضوره. ابن تيمية لم يقف عند حد التقويض لجملة من بُنى الأرغانونية الصورية بل واصل في عمل إنشائي وفي مسيرة بنائية جلى عبرها مناطق العبور المأمونة التي تصل الإنسان بحقيقة الأشياء فيقف على ملامحها عن كثب وبأدنى قدر متاح من الوعورة المعرفية.
ابن تيمية ينقد لا ليقوض فحسب، بل ليدشن لصرح منطقي استقرائي تجريبي من ضرب آخر؛ لأن النقد عندما يكون مجرد فعل تقويضي فحسب فإنه في كثير من صوره ليس إلا ضرب من الانفعال السكوني السالب. النقد للنقد أحياناً ليس إلا قصورا منهجيا يفترض تلافي الالتياث بملابساته.
القلق المعرفي الخلاق والاندهاش الذهني الدائم هو ما يحدو ابن تيمية ليبدو على نحو مغاير لمعظم مجايليه سواء في إدراكه للأشياء أو في تصوره لشبكة العلائق الرابطة وشائجيا بين خيوطها، وتعاطيه مع صور القياس مؤشر جلي على ذلك.
وعودا على بدء: فإن قياس الأولى وهو ما يعبر عنه الفلاسفة بقولهم: «كل كمال للمعلول فهو من آثار العلة والعلة أولى به» هو ما كان ابن تيمية يلح على محورية تفعيله في سياق المطالب الإلهية دون سواه؛ ولذا هو يعمل على تقريره ومده بعوامل الشيوع من خلال ذلك التسويق لفحوى مضامينه إبان مناهضته لأرغانون علوم العقل (المنطق) واشتغاله على البتّ الجذري لبعض ركائزه. فقياس الأولى الذي هو «ما يكون الحكم المطلوب فيه أولى بالثبوت من الصورة المذكورة في الدليل الدال عليه» شرح العقيدة الأصفهانية ص 43، ذلك هو القياس العقلي الذي جرى إيراده في القرآن الكريم؛ ولذا كان خيار هذه الأمة ينددون بابتغاء سبيلٍ غيره؛ فهم لا يتوسلون سواه في شأن المطالب الربوبية، وذلك انطلاقًا من تلك البديهية التي مفادها أن الله ليس كمثله شيء؛ ولذلك فعلى ضوء نفي تلك المماثلة فإنه يتعين حتما حظر قياس الشمول المكون من مقدمتين فصاعدا، الذي تستوي أفراده؛ فالواجب الوجود ينزه عن المشاركة في الانضواء تحت راية ذلك القياس.
والحظر ذاته يطول أيضا قياس التمثيل - طبعا حقيقة القياسين واحدة إلا أنهما متباينان في القالب وآلية الصياغة - الذي يجري فيه إلحاق فرع بأصل في حكم لعلة جامعة بينهما، كما في إلحاق النبيذ بالخمر في التحريم لجامع الإسكار؛ فهذا القياس الفقهي الذي يماثل فيه الفرع أصله لا يليق في حق الباري لأنه - جل شأنه - لا يضارعه شيء من الممكنات المفتقرة المنطوية في طياتها على عوامل الفناء وأوجه المحدودية، لا في أسمائه ولا صفاته ولا أفعاله..
ومن هنا يتعين قياس الأولى «ولله المثل الأعلى»؛ فكل صفة كمالية ممدوحة لذاتها ولا يعتريها نقص بوجه من الوجوه تنسب إلى المحدث واجب الإمكان الذاتي الذي من سواه يستقي وجوده، فواجب الوجود الأكمل من كل موجود الذي لا نظير له في مرتبة الوجودية؛ فوجوده أظهر من كل موجود، هو لا شك بها أخلَق.
ولا غرو؛ فمبدع الكمال أحق بالاتصاف به, بل احتواؤه عليه من لوازم ذاته؛ إذ يتعذر عقلاً منح الموجِد موجَده ما يسلبه عن ذاته، وإذا بطل هذا اللازم فإن ملزومه منتف بلا مراء.
وكل صفة سلبية تتضمن نقصا على أي نحو من الأنحاء ينزه عنها المربوب ذو الافتقار الذاتي, القائم بغيره, الذي غناه مستقى من غيره؛ فإن تنزيه القائم بذاته, الذي لا يقوم ما عداه إلا به هو من باب أولى.
لكن ثمة صفات كالنوم أو الأكل مثلا فإنها وإن كانت كمالا في المعلول ذي الكينونة الكائنة بعد عدم كونها وهو ينزه عن ضدها؛ لأن خلوه منها نقص فيه فإنها لا تنسب للواجب؛ لأنها مفتقرة للكمال المحض؛ ولذا فتنزيهه من هذا التنزيه لازم تتحتم الصيرورة إليه. وهكذا كل ما اقتضى نعته بما يتنافى مع وجوبه فيجيز عليه الإمكان, أو يقتضي إجازة ما ينافي قِدمه كالحدوث والقابلية للوجود وعدمه.
وكذلك لا يليق بحق الحق ذلك الإثبات المجمل ولا ذلك النفي المفصل، وكذلك النفي المجرد لا يكون في حقه؛ إذ النفي المحض عدم محض لا إجلال فيه بحال من الأحوال إلا مع تقرير كمال الضد كنفي فقره لكمال غناه ونفي ظلمه لكمال عدله ونفي الكفؤ لكمال الوحدانية.. وهكذا؛ فإثبات الكمال المطلق يستلزم نفي المقابل مع لوازمه إذ «ثبوت أحد الضدين يستلزم نفي الآخر» الفتاوى 3/84.
كثيرا ما يقرر ابن تيمية ذلك المعنى الآنف مؤكدا أنه لما كان الكمال «ممكنا لما هو في وجوده ناقص فلأن يمكن لما هو في وجوده أكمل منه بطريق الأولى، ولاسيما وذلك (يقصد الواجب) أفضل من كل وجه فيمتنع اختصاص المفضول (ويقصد الممكن) من كل وجه بكمال لا يثبت للأفضل من كل وجه» الفتاوى 6/76.
إذاً فابن تيمية لا يألو جهدا في تقرير قياس الأولى وتأكيد أن ما عداه مختل مفتقر للاتساق، وهو لا يفتأ مقررا أنه في مجال العلم الإلهي من المحظور أن يُدخل الخالق مع سواه تحت قضية كلية تستوي أفرادها كما هو عمل الفلاسفة والمتكلمين الذين انخرطوا في ممارسات انكفائية توسلوا بفعلها تلك الأقيسة إبان تعاطيهم مع المطالب الإلهية كما في ادعائهم أن الصفات لا تقوم إلا بجسم، وكل جسم مركب، فلو كان ثمة صفات لكان جسما، ثم لكان مركبا، والمركب يفتقر إلى أجزائه، وأجزاؤه سواه؛ فهي غيره؛ ومن هنا جرى نفي الصفة تلافيا لشبهة التركيب المزعوم وتحاشيا للقول بتعدد القدماء أو التعدد في الذات لتعدد الصفات! وقد كان تعاطيهم لتلك الأقيسة عاملا جوهريا في دخولهم في بيداء التيه الأيديولوجي؛ حيث كان التناقض وهجير اللا يقين؛ وبالتالي استبداد الحيرة المقلقة هو المآل الذي جرت الصيرورة العقلية إليه.
يقول ابن تيمية في حالةٍ من تصديه للحد من غلواء الصورية المنطقية مقابل تقريره لقياس الأولى وتأكيده اعتماد الشخصيات العلمية المعتبرة في الأمة عليه يؤكد ابن تيمية أنهم كانوا به يستدلون على أن «ما يثبت لله من صفات الكمال التي لا نقص فيها أكمل مما علموه ثابتا لغيره من التفاوت الذي لا يضبطه العقل كما لا يضبط التفاوت بين الخالق والمخلوق» الرد على المنطقيين 1/291.
Abdalla_2015@hotmail.com
بريدة