واضح جداً أن خريج جامعة السوربون الجديدة، صديق مدينة النور وعاصمة الفنون والمذاهب الفنية، ميله إلى جنس وعوالم السرد، فلا غرابة أن ينظم إلى (رقص) هذا الركام السردي برواية، أولى نتاجه السردي انتزعتها من بين نتاجات حديثة، توفرت بين يدي بعد معرض الكتاب الأخير، وبدأت قراءاتها كأيام لصلاح القرشي، وبشع عشوائي لحسنة القرني، ونحو الجنوب لطاهر الزهراني، ومساء يصعد الدرج لعادل الحوشان، والجنسية لمعتز قطينة، وتقرير إلى يوليوس قيصر لعلي الشدوي، ورواية الأحمر والأصفر لحسين العبري، كاتب عماني وروايته غاية في الجمال، وكنت قد بدأت بها ويتضح أن الأسماء الأخرى ذات تجربة في عالم السرد، وسرعان ما أدنيت رواية (رقص) من سريري بعد ما أصبحت أسيراً له، لقراءاتها.
خططت في البداية أن أضع كالعادة، أسئلة كمؤشرات على أي نص سردي أقرأه، فعسى أجد شيئا للحوار تكون من أوراق جماعة السرد في نادي الرياض، وكنت أتطلع مع غيري من نصف قرن، مبادرة الدكتور معجب الزهراني ويكون عوناً وسنداً للجيل المبادر الآن ونحن نشهد طفرة روائية هائلة، ليخطو نحو نقد وقراءة وتحليل وفرز الركام السردي الهائل، لتكون هذي المبادرات بنيه صالحة لمركز دراسات علمية، تحد من فوضى بما له من معرفة زوابع مقولات نقدية، صاحبت حركة الحداثة الشعرية وأجيالها خلال عقود وهي من وجهة نظري، أصدق ما جاء في مشهدنا الأدبي، فالزمن الروائي الآن حاضر بقوة، وتأسرني قناعات الذين يأخذون بتداول الفنون، ويؤمنون أن المعرفة لها أوانها، وأوانيها جيلاً بعد جيل.. وسرعان ما ظهر الراوي الذي يخاطب الجماعة، ويتخذ نداء المخاطب تيمه تردد (يا جماعة الخير..) كفاتحة ومفتاحاً للكلام، وتخلي عن بلاغة الكتاب ليكتب ويتحدث ويرقص بتلقائية وعفوية أمه وأبيه، يجبرني لأحث الخطو، والمُ بنصوص الراوي، ومعرفة دروبه السردية، ويستحق في كل الأحوال، أن تفتح له ولنصه كل الأبواب، فقد أحسن بعد أن تيقن، أن خير ما يترك للأبناء وللأجيال، هي قصاصات الكتابة المخبأة، وليكتب الناس عنه وعن روايته، بدلاً من أن يكتب هو عنهم.
رقص: قلت أن زوربا لكازنتزاكي اليوناني لا تزال في الذاكرة، فالرقص طقس مقدس كالحرية، يطهر الجسد كما تطهر الكلمات الروح، وحاولت أتذكر بقايا الحي اللاتيني لسهيل أدريس، وعصفور من الشرق في بداية لتوفيق الحكيم، وسرعان نبتت في الذاكرة التجربة الإنسانية لبطل هذا النص، فتعود إلى الذاكرة تجربة للرائد عبدالكريم الجهيمان حياة في باريس و(قصة) مطوع في باريس للأستاذ محمد ناصر العبودي الذي ظن في بداية رحلته، أن البرية كلها طريق صالحة للإبل، فعرف في جدة التي وصل إليها بالسيارة بعد ثلاث ليالٍ، تأشيرة الخروج، وسمة الدخول، والحجز في الطائرة، وتذاكر السفر.. لكن الراوي في (رقص) يختلف هنا.
رقص رواية تعطيك دهشة الاختلاف، ورواية ما يسمى الراوي العليم، معرفة فن المغامرة الكتابية والحياتية، وهنا تبدأ رواية رقص فالراوي الذي في لهفة، غادر إلى المطار في رحلة إلى باريس، ونسي في السلة البلاستيكية في إشارة بارعة، خاتم سليمان من صنعاء القديمة، لن ينسى التواصل المبرمج مع طبيب نفسي بارع، يرى أنه لم يعد يجدي بقاءه، ولا جدوى لبقاء أحد في حياة، لا جدوى منها بلا حرية، ولكنة لم ينس في وداعه إلى مدينة الحرية قوله ل(زاراني الأول) مودعاً: الله لا يردك..
ويتكئ بعض من المبدعين على عوالم الرقص في الروايات، وأخص رائحة الفحم لعبد العزيز الصقعبي وبنات الرياض لرجاء الصائغ، وتعني توظيف فني ذي دلالة يعني بتحرر المرآة، ونجد في رواية (رقص) أن الرجل هو المعني بالرقص والتحرر والحرية، فالرقص مفردة تقبع في ذيل مفردة السفر، وتحمل بمها لها من دلالات تحررية، لا تعني بالضرورة تحرر المرأة وحدها، فالرجل يمارس السفر بدوره ليتحرر، وذاكرة رقص حينما تصفو وتنتظم الحكايات، وتعود إلى ينابيعها الأولى، تبدو حزينة متوترة وهي ترد بأعلى صوتها: لا سامح الله الأول والتالي. تظلمونهن في الدنيا والآخرة، ولولا أن المرة تخاف الله وتستحي من ملائكته لشبت النار فوق قبور الرجال ليل نهار، وللسفر خمس فوائد..
فالراوي العليم لا يدع لك أن تستغرق في مساحة التأملات، فالمشهيات والزخرفات والمغريات ودروب الحرية ذاتها، مسارات متنوعة في ذاكرة الأزمنة والمكان، تصبح لحظة الكشف مدهشة، حينما تضيق العبارة، ويتشكل عالم الروية، وتحدد بوصلة الذاكرة صيدها: (تيقنت أن هذا الرقص لي ومن اجلي نسيت سبع سنين من السجن والتعذيب، كنت ضحية فتحولت بطلاً. كبار الجماعة يتبادلون أماكنهم عن يميني وعن شمالي. بعض الشباب كان يرقص وينظر إلي كمن يصر على أن اصعد معه إلى السماء السابعة. شعرت بطاقة غريبة في جسدي وليونة عجيبة في تراب الأرض. رقصت وغنيت كما لم افعلها من قبل, مرة في مقدمة العرضة ومرة في وسط الساحة.) ص47
استنبت ذاكرة راوي عليم الرقص الجنوبي لشخصية البطل المركب في أجيال، فيتصاعد الحي في ذاكرة رواية تريد أن تتحرر من أوزارها، فيكاد يفقدني بصيرتي ويغرسني في غابة وغربة الواقع المحلي، فأجد تثارا مشابهاً من هنا وهناك، يأتي في روايات محلية متنوعة من بيئات محلية مختلفة، ويختلط الحابل بالنابل كما يحدث بعيون الروائيين العرب دائما، فيشاهد الذين يأتون ليكتبوا من الخارج تاريخنا السياسي في نسيجهم الروائي، وخشيت أن ينحى النص ويكرر تجارب بعض الكتاب المحليين، خرجوا بأبطال نصوصهم خارج الحدود، حينما تعلو النبرة السياسية ويتم كشف المستور، ومنهم إبراهيم الناصر الحميدان في (سفينة الموتي) ونتاجات عبد الرحمن منيف، وبالذات رواية (شرق المتوسط) ورواية لمحمد عبده يماني لا أذكر الآن اسمها، حينما يريد البطل أن يفضفض من عذابات السجون، ويتجرأ على نطق المسكوت عنه بعد هذا الزمان، وينجو من دروبهم بما فيهم أحمد أبو دهمان، ويحضر بالذات في ما يرد من مقولات الوالدة، وأحلام نساء القرية عن المولود الجديد الذي سيغزو ضوءه الفضاء!
- 2 -
نص (رقص) إلى التوثيق المعرفي الواقعي، ويمنحني هذا المقطع نشوة وصدق، تمثل رقصاً بالفعل: (نهضت وبينت لهم كيف تؤدى العرضة والمسحباني واللعب في قريتنا.. أما خطوة عسير وسامري الدواسر وخبيتي الطائف ومزمار الحجاز ودحة الشمال وعزاوي تهامة وزامل نجران فقد شرحتها وأنا جالس في مكاني..) ص74
أما بالكلام (لا شريك له!)، وتلك نكتة معروفة في الباحة ومتداولة بتحريف ساخر، حينما يغني كلاً على ليلاه.. وقد أصبحت فنون الرقص واقعاً ملهماً للراوي بكل تفاصيله، ما حك جلدك غير ظفرك. تاريخنا لن يكتبه غيرنا. وحكايتي جمله في كتاب، وإن لم تسمع وتدون ضمن سياقها لن تكون جملة مفيدة، ذاكرة الوطن لا تنفصل عن جملة المواطن. فلا الكاتب البريطاني ولا صحفي الفرنسي يعي كيف تجترح الحكاية من منابتها الحقيقية، وتصبح رويان المكان والجمال والإحداث تاريخا يكتب، ويصبح السفر مفردة كاملة الثراء، تحصن ذاكرة تحتفي بالشخوص والزمن والحالات ورقصاً بارعاً..؟!
رويان (نتالي المكان) الزمان في الذاكرة التي ستكون منبع حكايات، تتغير مسارات اتجاهاتها كيف ما تمليه الحالة المزاجية الماثلة، فتحضر القرية لحظتها بشخوصها ومعالم رقصها حكايات لا تكتمل، حينها تكون الذاكرة حقلاً من الخطأ أن يترك لآخر ليحتلها، وقد حان سيل تدفقها فالكتابة علاج، والذاكرة المتعبة كيس مثقل لابد من نقضه كي لا ينشق، فتندلق محتوياته فوق رؤوسنا وبين أقدامنا، المسافرون يعودون بالذهب والفضة، بطلنا يعود بالكتب والصور وفتافيت النسوان. الله المصلح.. متعلم وما تعرف أن صندوق الرجال مثل رأسه وصندوق المرأة قلبها؟ والرواية تنحاز إلى المحلي في خصوصيته المكانية، وتتجلى في الأزمنة بحرية، تحضر شخوص تغذي الحكاية وشهودها القرية، وتحضر الرياض بصورة أو أخرى مع أحد الشخوص الكثيرة، حررتها ذاكرة الراوي وتنسج خيوطها، وكيف يتحرر الإنسان، وتصبح المعرفة تداولاً بين الأجيال، والرواية قراءة في بحث الإنسان عن حرية قلبه، وعقلة جيلاً بعد جيل في جزيرة العرب... لكن قصة (مسرور) العبد مستني في العمق كمثقف، خلاصة سردية متفردة ودالة في الرواية، وصراع إنساني قيمي، يداوي بالسفر دوافع القلب والعقل، حينما نظرت له بتجرد، ذكرني مسروراً أنه نسخة أخرى من (عبد بن الحسحاس) ينتمي إلى ذات العالم الإنساني، أحد الشعراء المخضرمين بين الجاهلية والإسلام، واسمه سُحيم، وكان سُحيم يدفع عن نفسه معرّة السواد بما يتحلى به من حميد الخصال نحو قوله:
إن كنت عبداً فنفسي حرّة كرما
أو أسود اللون إني أبيضُ الخُلق
وكان، على سواد لونه وضعة أصله، يتغزل بالنساء الحرائر ويهجو الأشراف، وقد تنبأ عمر ابن الخطاب، رضي الله عنه، بقتله حين سمعه، ينشد متغزلاً
توَسّدني كفّاً وتثني بمعصم
فقال له عمر: ويلك، إنك مقتول
فالجسد لا يحرق بالنار كالشمعة، والكلمة الحرة لا تموت، تتوارث من جيلٍ لجيل، وتستنبت ذاكرة رقص (زاراني) ثالث من دروب المعرفة والحرية، كانت في مدينة مرسيليا مرفأً لعقله وقلبه بعد رحلات ومغامرات سفر، كأن الأرواح تتناسل في بحثها عن دروب الحرية، التاريخ يعيد نفسه ويكتبه أبناؤه.
الرياض