الأنا والآخر والاختلاف والخصوصية الثقافيتين قوانين يتشكل بموجبها «المجال التداولي المركزي» و»المجال التداولي المهمش»، وهي قوانين عادة تعتمد على الفهم والتأويل كونهما هما اللذان يصنعان التصور الثقافي للفرد أو للجماعة، فالفهم والتأويل غالبا يخضعان لسلطتي -البنية والمؤثِر- المجال التداولي أو «الدازاين» كما يسميه هيدجر.
ويطلق مصطلح «الآنية» أو الدازاين للتعبير عن تفاعل الإنسان مع وجوده عبر العلاقات المختلفة، «الوجود في العالم»، لتوحيد الإنسان مع العالم، فوجود الفرد لا يكتمل إلا بوجود الآخر وفهمه، وهما يتمثلان من خلال الآنية، وفهم الآخر هو إمكان من إمكانات تحقيق الوجود الذاتي، فالعلاقات كخارج هي التي تمثل الآنية، والتي بدورها تحدد طريقة الإنسان في إنشاء وتأليف المنظومة الإجرائية لتفكيك وتحليل وفهم الوجود.
فالآنية كماهية «تقوم في وجودها خارج ذاتها» وبذا فالعالم والآخر هما اللذان يحتضنان الآنية.
والفهم هو الذي يمثلها، وهو إجراء أساسي من إجرائيات الدازاين؛ فنمط وجود الدازاين يتمثل في فاهم لذاته؛ أي قادر على إدراك ممكنات وجوده ضمن سياق العالم الحياتي الذي وُجد فيه.
وتعتبر الآنية -الذات- وجودا -في- العالم موجودة دائما في الخارج من خلال الظروف والمؤثرات والحالات، فهي لا تحتاج في اتجاهها إلى الموجودات وإدراكها لها لمغادرة مجالها الداخلي الذي نتصورها حبيسة فيه بناء على حدود تأثيراتها، إنما هي دائما بحسب طبيعة وجودها الأولية عبر ما تملكه من إحالات وظروف ومؤثرات موجودة دائما «في الخارج» مع الموجودات التي تصادفها في هذا العالم، كما أنها دائما»بالداخل» باعتبارها وجودا -في- العالم من خلال قيم إنتاج الإحالات والظروف والمؤثرات.
إن مفهوم الفهم لا يتحقق إلا بعد تأسيس مفهوم للوجود، فتفاعلنا مع طبيعة الفهم مرتبط بفهمنا للوجود؛ فالوجود تجربة يُنتج تجربة الفهم، فالفهم هو حاصل معرفتنا بتجربة الوجود، باعتبار أن مفهوم الوجود كأهم معيار لصناعة الفهم وجدلياته، وبذلك تتأسس كينونة الفهم أحكامه وأنظمته وقيمه، التي تسعى إلى تحليل خصوصية تصور المرء نحو ذاته ونحو الأشياء، سواء على مستوى الإنشاء أو التقويم أو التأليف.
فالوجود هو التحقيق الفعلي للماهية عبر التجربة ومن خلال خصائص الشكلانية، ولكل وجود خصائص ماهية تتحكم في التجربة وشكلانياتها ووسائل تحقيقها الفعلي؛ من خلال «المحايثة» والاعتماد على المنظومة الفهميّة للمرء» وهما اللذان ينظمان العمليات المرتبطة بمفهوم ما، سواء على مستوى شكلانياته أو ماهيته أو أنظمته.
وهذا الأمر يجعل معطيات الوعي هي التي تتحكم في تنظير خصائص المجال التداولي أو التداولي المضاد من خلال إنتاج تصورها الخاص المطابق لخصوصية الذات أو المخالف لمواصفات الخصوصية، وبذلك يرتبط فهم المجال التداولي أو المجال التداولي المضاد بفهم الذات من خلال قدرة المرء على تكوين معطيات خاصة للظواهر خصوصيات الأنا أو خصوصيات الآخر التي يستمدها من وعيه ومنظومته الفهمية وهي بدورها تؤسس أفق تصوره الثقافي نحو الأشياء ونظائرها داخل المنظومات الفهمية الغيرية.
كما أن الكينونة الذاتوية أو الغيرية ترتبطان بالواقع علاقة التأثر والتأثير؛ باعتبار أن الكينونة تتجلى في ظواهر «الأشياء»، وواقع يتجلى من خلال التفاعل بين الأشياء كظواهر والتجربة، التي تعيد ترتيب تأثير الأشياء على الخبرات مما يؤدي إلى إنتاج الأحكام المتعلقة بالعمليات المعرفية، والتجربة هنا ممثلة للوعي كما أنها ممثلة للتركيب المنطقي لإجرائية المنظومة المعرفية التي تؤسس بدورها معايير فهم الموجود وفهم الفهم.
وتتشكل البنية الوجودية وفق التطبيقات الذهنية والتطبيقات الواقعية؛ والتطبيقات الذهنية تعتمد على التجربة في إنتاج تصورات مستمدة من العيان الحسي تؤلف المعطيات الأولية للتصور الثقافي للفرد، والتطبيقات الواقعية هي التي لا تعتمد على المعطيات الأولية حاصل التجارب العيانية، وبالتالي فكل ما يُنتج بناءً على تلك المعطيات يتصف بالشمول لا الموضوعي لأن ما يقدمه التطبيق الواقعي صورة وليس موضوعا، باعتبار أن الوجود الواقعي هو مجموعة أفكار لها محمولاتها من الحقائق التي تؤثر على المعطى الحسي والمعرفي.
فالتطبيق الواقعي هو الذي يؤسس أفق التصور الثقافي للفرد؛ أي إعادة تنظير التصور الثقافي الحاصل من التطبيق الذهني وعلاقات الأنا بظرفيات الآنية وإمكاناتها.
فالأنا تستمد صيرورتها عبر التفاعل مع مجموع من الإمكانات الآنية «الآخر والأدوات والأشياء» وعن طريق «الموقف والفهم» التي تختارهما سلطة المجال التداولي لكي تحضر الأنا من خلالهما لتمثيل أفق التصور الثقافي لخصوصية الجماعة.
والموقف في الحلقة الفهمية يعتمد على الوعي والنشاط فهما اللذان يحددان ماهية وجوده «وجوب الوجود» وكيفية الوجود «اختيار الإمكانات»، ويؤسسان الفهم كمشروع، باعتبار أن الموقف «استثمار المجال التداولي أو تغيره»؛ لأن العلاقات «الآنية» لا تُصير إلا بواسطة تصور توقعي يتشكل من خلال مشروع، والموقف هو جزء من مشروع الفهم، فالمشروع هو الصورة التي تعبر عن إمكانات الآنية، والفهم كمشروع لاستثمار المجال التداولي أو تغير بنياته هو مبني على معنى عملي وليس عقلي فقط، لأنه يعتمد على فاعلية تحقيق الإمكان والتحكم فيه من خلال علاقات الآنية لإثبات حكم أو موقف «الموضوع والمحمول»، وبذا يصبح الفهم وسيلة تعبير لصناعة تغير سواء على مستوى الهيئة «الماهية» أو الحدس «الوعي» ومن خلال إجرائية الفعل الارتدادي لحركة الافتراضات المسبقة الخاصة بنا قصد بعث وتفعيل الحوار الأصيل بين رأيين محددين لبنية السابق كونها إحالة ، ولبنية السابق كونها توقعا.
يعتمد التأويل على فهم وتفسير العلامات التي تُقدم لنا عبر علاقات متشابكة ولا يحدث ذلك الفهم والتفسير إلا عبر اشتراك ثنائي لخلفية موحدة للعلامات المقدمة عبر تلك العلاقات بين الذات والموضوع حتى يتم تمثيل الكينونة الخاصة عبر اكتشاف المعنى من خلال إعادة فهم الظاهرة في سياق مختلف من خلال تفسير الأبنية وتفسير التحولات؛ أي المعرفة الجديدة.
ويسعى التأويل من خلال الخطاب الحامل لتلك الظاهرة إلى اكتشاف جوهر الظاهرة ومعناها الحقيقي والقوانين التي تتحرك الظاهرة في ضوئها من خلال السياق، وبذلك فإن اكتشاف الظاهرة عبر السياق يتم عبر تاريخ الأفكار.
ولا تقتصر الحلقة التأويلية على الوظيفة المعرفية لاكتشاف المعنى الباطن للظاهر أو الحقيقة، بل تسعى إلى اكتشاف علاقة الذات بالوجود وكيفيات تلك العلاقة.
والفهم ذو طبيعة جوانية يعتمد على الرغبة والإدراك؛ لذلك رُبط الفهم بالوعي، باعتبار أن الفهم يمثل وحدة نفسية تعتمد على التجربة المعاشة التي تشكل البنية الأولية لإنتاج المجال التداولي والمجال التداولي المضاد؛ أي تصوراتنا وأحكامنا، وتلك التجربة التي تحقق الإدراك بحضور ذوات أخرى هي التي تُعيننا على فهم دلالات التداولات المختلفة والمتضادة وتكوين تجارب جديدة تزويدنا «بمفاهيم ضرورية لفهم المجال التداولي المضاد لتداولية خصوصيتنا «وتفاعل هذه العلاقة بين التداولية الخاصة والتداولية المضادة تعني إعطاء فرصة لكل مؤوِل أن يعبر عن كينونته الاجتماعية من خلال ممارسة «الحرية» و»الديمقراطية» و»التعبير الفكري والفني»؛ مما يحقق هدف التفاهم «الشراكة الإنسانية أو الشراكة العالمية».
وتوسيع مدارك التداولية الخاصة والتفاعل مع التداولية المضادة هي إضافة تسهم في تعدد دلالات أفق التصور الثقافي عبر ممثلاته وهي دلالات بدورها تسهم في إنتاج الخطاب الفكري المشترك الذي يُشرّع عدالة توزيع ثروة المجال التداولي من أجل إبراز المجال التداولي المهمش.
ومسألة المجال التداولي المركزي والمجال التداولي المهمش هي مسألة ترتبط عادة بمقدار الحضور والغياب وذلك المقدار بدوره يرتبط بقوة أو ضعف سلطة بنية المجال التداولي، وهي بدورها ترتبط بالكثرة والتأثير.
كما أن المجال التداولي الذي يتصف بالكثرة والتأثير هو الذي يحقق الحضور وصناعة الخطاب المركزي، والمجال التداولي الذي لا يملك خصائص الحضور يصبح مهمشا مما يدفعه إلى صناعة خطابه المضاد؛ لمقاومة سلطة خطاب المجال التداولي المركزي التي تسعى إلى استلاب خصوصية مجاله من خلال إعادة إنتاج دلالات المجال التداولي المهمش وفق خصائص المجال التداولي المركزي، عبر تقنية «الحلولية» التي تسعى إلى إعادة تركيب الخبرة الفكرية للذات المهمشة من خلال دفعها لتقمص شخصية الذات المركزية لكي تتخلص من تداوليتها الأيديولوجية فتحقق الاندماج مع خصائص التداولية المركزية وحتى تكرر الذات المهمشة ناتج الذات المركزية، على اعتبار أن الحلولية تحقق للذات المهمشة الوصول إلى لحظة التذهن؛ الاقتراب من الحد الأعلى الرئيس لبنية المجال التداولي المركزي، لاستمرار إنتاج المقاصد الأصلية والأولية للمجال التداولي المركزي.
باعتبار أن المجال التداولي المركزي أسبق في الوجود من المهمش في محيط المعلوم؛ لأن فهمه عن نفسه جاهز ومكتمل بالنسبة للمهمش، في حين أن المهمش فهمه ناقص بالنسبة للمجال الحاضر في محيط المعلوم، مما يحوله إلى مجهول.
ويتحول المجال التداولي المهمش من مجهول إلى معلوم من خلال تفعيل حضوره عبر الإحياء الجمعي لسلطة بنيته، أي تجديد كينونته من خلال إعادة فهمه من قبل المجال التداولي المركزي في سياقات مختلفة بفهومات مختلفة وجدليات متفاعلة، وهو ما يُنتج توازنا بين المجال التداولي المركزي والمهمش؛ لأن الذات العارفة/ المركزية هنا تتحول إلى مؤوِلة، وهو ما يعني إتاحة ظهور لسياق المجال التداولي المهمش من خلال الحوار وثقافة الاختلاف.
إن تعدد التحولات التأويلية للمجال التداولي المركزي هو إسقاط لدكتاتورية الحقيقة، والإسقاط كاستراتيجية تفكيكية تُمكن الممارسة التداولية من إبراز الجانب الآخر من العقل «اللامعقول» أو البنية المعرفية المحبوسة في سجن سلطة العقل/ مركزية المجال التداولي، وهو إبراز يترتب عليه إظهار المجال التداولي المّهمش.
فالتأويل مبني على الفهم الذي ينقل الذات من خصوصية تداولها إلى وجودها الإنساني الكلي من خلال علاقة التأثر والتأثير داخل تجربة الشراكة الثقافية، وهذا الدخول عبر علاقة التأثر والتأثير يمنحها الانفتاح على إمكانات الوجود بمجالاته التداولية المختلفة من خلال استفادتها من إغناءات الاستعمالات الوضعية للمفاهيم عبر الحوار وجدلية السؤال والجواب، اللتان تسعيان إلى إيجاد توازن بين آفاق المجالات التداولية لجميع الأطراف، ومشاركة فكرية متبادلة ومشروع ثقافي مشترك.
وبذلك يصبح التأويل هو فهم الذات عبر فهم الآخر، والوصول إلى الفهم الحقيقي الذي يُنتج التفاهم؛ العلاقة الاشتراكية بين المجالات التداولية المختلفة عبر الحوار الإنساني والمعرفي.
وللاقتراب من إجرائية هذا الجزء سأقدم تحليلا لكتاب «السلفيون والشيعة، نحو علاقة أفضل» للشيخ حسن الصفار، وهو موضوع الحلقة القادمة من هذه القراءة.
جدة