Culture Magazine Thursday  27/05/2010 G Issue 312
أوراق
الخميس 13 ,جمادى الآخر 1431   العدد  312
 
هذه الحضرة لا تغيب
د. عبدالله محمد الغذامي

في حضرة محمد البنكي، هذه الحضرة التي لا تغيب.

هدية من السماء هو...

هذا ما كنت أحس به مذ عرفت محمدا قبل عشرين عاماً، هنا في قاعات جامعة البحرين، كانت لحظة اكتشاف وانبهار، رأيت فيه عقلاً ووعياً وروحاً وثابة، وكدت يومها لا أصدق ما أرى وأسمع، ولكن توالي اللقاء عزز عندي كل آمالي بجيل عربي ناقد ومخلص وعارف.

هدية من السماء هو...

عرفته ثم قام هو بتعريفي بعدد من العقول الشابة في البحرين ما جعلني أصرح مرارا بالقول إن مستقبل النقد هو في البحرين والمغرب، واضعا في الاعتبار ما رأيته وشهدته هنا وهناك.

وظلت الفكرة تنمو وتتعزز، وفي منعطف من منعطفاتها كان محمد البنكي يقف ويقود الإحساس بصدق النبوءة، وصدق الظنون وصدق الأحلام.

ظل محمد يعطي بفكره العالي وبجهده الجبار، ويطرح الفكرة تلو الفكرة والمشروع تلو المشروع، والوعد تلو الوعد، ويحقق ذلك كله.

وظلت الحياة تسير بوعودها الكبار وظلت نفسي تفرح وتنفتح، وأعلنت وأنا هناك في السعودية أن البحرين هي رئتي التي أتنفس بها، وكان محمد وصحبه هم من كنت أعني ومن كنت أضع في صميم ضميري العلمي والمعنوي.

هذه كلها هدايا من السماء

والسماء لا تتراجع في هداياها

إنها تظل معطاءة وتظل واعدة وتظل تغمرنا بحس لا يزول.

وهذا هو محمد البنكي إنه بالنسبة لي وعد لا ينقطع، وما بقي لنا منه في غيبته هو نفسه ما كنا نأخذه منه في حضرته.

إنه محمد الهدية الربانية، وهو محمد الوعد الدائم والبسمة العامرة أبدا. حينما جاءني الخبر توقف كل شيء لا لتنتهي الأشياء ولكن لتتغير معاني الأشياء، وتقلب الصفحة مع معانٍ تعاطيناها إلى معانٍ أخرى لم نتعاطها وإن كانت موجودة، غاب شيء وحضر شيء آخر.

هي حالة مررت بها من قبل وذلك في حج عام 1417 (1997) حيث كنت في منى في يوم التروية، وكنت في الخيمة وسط جموع الحجيج، وكانت الحضرة الإيمانية في أوجها، وفجأة بدأت ألاحظ التغير في حركة الناس داخل الخيمة الكبيرة، تلك الخيمة التي تضم مائة شخص أو أكثر، وبدأ الأشخاص يتموجون بصمت رهيب وبدأت ألحظ تغير وجوههم وتغير لهجة الدعاء عندهم، وصار بعض منهم يتردد على مدخل الخيمة الخارجي ثم يعود، وليس من بينهم صوت ولا كلام.. كل ما هناك همس ووجوه شاحبة وعيون شاخصة، ثم بدأت ألاحظ زيادة في عدد الطائرات التي تحلق من فوقنا، وهنا خرجت لكي أرى.

وعندها رأيت الموت أمامي... أموات أموات ورجال ونساء، والكل يحمل الكل على ظهره.. لقد شب حريق في منى وتحركت النيران من مخيم إلى مخيم وبدأ الحجاج يتساقطون... ماتوا بالمئات... وها هم يمرون من حولنا والناس تحمل موتاها، والصمت هو اللغة الوحيدة في المكان الذي كان يضج بالحركة والدعاء، ثم جاءني صوت أمي تطلب مني أن أنفرد بها للحظة، وانفردت لكي أسمعها تهمس بأذني وتقول يا ولدي إن معي في حقيبتي كفنا فإن حدث لي شيء فكفنوني بهذا الكفن الذي أعددته.

كانت أمي قد أعدت كفنا لها ولوالدي من قطعة قماش مشتركة، ولما مات والدي حمل شقه من الكفن واحتفظت هي بشقها الآخر تحمله معها في سفرها وفي مقامها ولا تفضي بسرها إلا وقت الضرورة ولمن تثق به بصدق، وهاهي تشعر الآن بأن الموعد قد يدور من حولها.

قالت أمي ذلك ودارت بي الدنيا دورتها ولم أقل شيئا وحبست دمعي وانحبست لغتي، وشرعت أنظر في الموت والأموات، وهم يمرون أمامي.

بدأت أسئلة وجودية وقاسية تتسلل إلى نفسي، وها نحن في المشعر الحرام وفي الشهر الحرام وعلى أبواب اليوم الأكبر، يوم الحج الأكبر، على خطوات من عرفات وخطوات من الكعبة وليس بيننا والسماء حاجز، وأمي تحكي عن موتها وكفنها، والناس أمامي يحملون موتاهم على ظهورهم.

لماذا يموتون في هذا اليوم وفي هذا المقام، أليس من رحمة تشفق عليهم في يوم الرحمة...؟؟ لم تدم الأسئلة كثيرا حيث جاءني المعنى وحل محل الأسئلة.

ما الموت..؟

أو ليس هو رحلة من مكان إلى مكان.. وهو انتقال من صحبة إلى صحبة..؟ جاءتني الجملة البهية التي وردت في السيرة النبوية حينما نطق الرسول بكلمته الأخيرة مختارا الرفيق الأعلى.

هنا في منى رفقاء الرحلة والقربى، وهناك في السماء الرفيق الأعلى، ولقد اختار هذا الأعلى أن يأخذ بعض من جاؤوا إليه حاجين وأراد أن يخصهم بضيافة منه خاصة، وغير من مسار رحلتهم فأخذهم إلى صفه وإلى دار ضيافته.

حضر هذا المعنى في ذهني فتغيرت الأشياء في عيوني وصرت أنظر في الناس الأحياء وهم يحملون موتاهم وصرت أراهم باسمين وشبه فرحين، وصرت أسمعهم يهمهمون بلغات غير عربية من لغات شرق آسيا، ولم أكن أفهم قولهم ولكني كنت أرى على وجوهم الفرحة وكأنهم يزفون موتاهم إلى حفلة عرس أو حفل تخرج بهي.. نعم هو حفل تخرج، لقد خرجوا من الدنيا في أعز مكان عليهم وفي أقرب لحظة لهم مع ربهم، رفيقهم الأعلى.

هنا وفي هذه اللحظة تغيرت عندي الأرض وصرت أراها بهية وحفية بنا، وتغير عندي إحساسي بأمي وفهمت أنها بلغت من الإيمان والحب مبلغا ما كنت أراه من قبل، وها أنذا أراه عيانا وصدقا.

تغير معنى الموت عندي، وفهمت أنه رحلة من الممكن أن تكون رحلة وعد وموعد أعز وأعلى من مواعدينا المعهودة.

كان حمزة شحاته يقول: لا يعطي تفسيرا تاما للحياة إلا الموت، وكانت شيرين ابنته تروي لي مرة لحظة احتضاره وموته وكيف أن عينيه اللتين فقد البصر فيهما قبل موته بسنوات تحولتا إلى عينين توسعت أحداقهما وتفتحت حدودهما وهو ينظر شاخصا إلى الفراغ الكبير الذي أمامه، وتقول شيرين إنه أشار لها بأن تصمت ودخل هو في حالة شخوص عميقة أحست شيرين معها أنه يرى في البعيد البعيد، وهو الأعمى، وأنه يسمع وكان يرتحل من عندها بروحه مصحوبا بمن يراه ويسمعه وهي لا ترى ما يرى ولا تسمع ما يسمع، وراح إلى الرفيق الأعلى هادئا وراضيا وتركها مع دنياها لتروي لنا لحظة ترحله النهائي.

كانت منى درسا لي تعلمت فيها المعاني وتذكرت لحظة حمزة شحاتة ورأيت أمامي بشرا يحملون موتاهم بعيون كأني بها كانت تغبط الموتى على ميتهم هذه وعلى اختيارهم من بين الملايين لكي يأخذوا قطار الرحلة من ذلك المكان وفي ذلك الموعد.

تحضر لي هذه المعاني كلما فقدت عزيزا، وقد صارت لي قبل عامين وكنت في بريطانيا ولمحت مقالة في جريدة (الانديبندنت) عن محمود درويش وقد فرحت باهتمام جريدة بريطانية كبرى بشاعر عربي كبير له عندي محبة خاصة، وتضاعف فرحي لظهور المقالة في موقع بارز في الجريدة، ولكني أحسست بشيء من الاستغراب لكون الكاتب يتكلم عن الشاعر ويميل إلى استخدام صيغ الماضي، وقد ظننت أن الارتباك الذي صار عندي هو مجرد ارتباك أسلوبي، وظل الأمر معلقا عندي ما بين فرح بالمقالة وبين عجب من لغة المقال الماضوية، وبعد يومين رأيت ابنتي غادة تحاول أن تقول لي شيئا وحينما شجعتها على كشف ما عندها قالت لي بدموع غامرة إنها تعرف الخبر منذ أيام وحجبته عني تجنبا لحزني وضيقي، قالت: إن محمود درويش قد مات في أمريكا منذ أيام.. دارت بي الدنيا وظللت أياما أرى ولا أرى وأسمع ولا أسمع واكتسبت الأشياء ألوانا أخرى ومعاني أخرى وصرت أمشي في الأسواق ولا يعنيني ما يعني الناس لقد كنت في عزلة صيفية وصرت في عزلة معنوية ووجودية.

مرت سنتان وبقي المعنى العميق لمحمود درويش يعيش في أعماقي وتوغل في صناعة الدلالات للحياة والوجود والفقدان، ولم أكن اعلم أن لي موعدا قريبا مع محمد البنكي.

جاءني الخبر وأنا في أبوظبي وبيني وبين طائرة العودة ساعات، وكنت في صباح ذلك اليوم أتمشى على البحر بعيد الفجر وعند مطلع الشمس، ومر محمد بي، حضر في خاطري، وتكلمت معه ورأيت وجهه ورشحته لأمر علمي ندبته إليه في خاطري، ثم مازحته في سري وقلت له: لا تعتذر عن هذا المشروع.

ثم ذهبت لسائر أمري وانشغلت بأمور يومي، ولم أكن أعلم أن هاتفا من معجب العدواني سيأتيني ويقول لي: إن محمدا قد أخذ قطاره النهائي إلى بارئه ورفيقه الأعلى، وتركنا هنا...

تركنا محمد... مبكرا، وبدأت عندي رحلة المعنى كما صار لي من قبل في منى وصار لي في بريطانيا، وجاءت المعاني، تغيرت الأشياء أولا وصرت أرى الجدران وبهو الفندق وصالات المطار ومقاعد الطائرة ومكاتب الاستقبال، أراها ولا أراها، تغير لونها وتغيرت أصوات البشر وتغيرت الإشارات والكلمات، واكتسى كل شيء معنى آخر ودلالة أخرى، وصرت أتكلم من أعماقي ومن ضميري وليس من لساني وتغير صوتي ولوني، ودخلت في عالم غير العالم البشري العادي.

صار كل شيء ربانيا وصرت أسير بعيون داخلية وشخصت عيوني الخارجية، وبدأت ألمس كلمة حمزة شحاتة: لا يعطي تفسيرا تاما للحياة إلا الموت.

صرت أتذكر أن محمدا كان مريضا، وأنه لم ينكسر قط أمام مرضه، وأنه كان يلهمنا كيف نسلك وكيف نتعامل مع خبر مرضه، وهون علينا الخبر وجعلنا نتقبله ولا نبكي، وكان علينا أن نبكي ونحزن ونضيق، ولكنه رفع عنا هذه المعاني ومنحنا أخرى أعمق وأعلى وتدربنا نحن على التدريب السلوكي الرفيع، وتفهمنا كيف يتعلم المرء ما لم يتعلمه من قبل أن هو فحص المعاني بأدوات الوعي الضمائري البصير.

كان هذا هو محمد البنكي بمعناه الرفيع وببسمته الدائمة وبإيمانه الفذ، ومنه تعلمنا وتعمقنا وتخلصنا من الشتات النفسي والمعرفي.

وها هو اليوم يهدينا درسه الأكبر، خطبة الوداع الكبرى، ويقدم لنا المعنى الذي مازلنا عاجزين عن استيعابه بصورة كافية، المعنى الكبير لرحلة المؤمن إلى رفيقه الأعلى، والمعنى الكبير الذي يهمس لنا من بعيد بأن الموت هو المفتاح الأعمق لفهم الحياة وتفسيرها.

يفسر لنا محمد معنى أن يغادر المرء في رحلته الأخيرة، ومعنى أن يترك لمحبيه أن يتأملوا في ذلك ولو تكلم هو لقال لنا كيف نتعامل مع النص الأكبر بوصفه موعدا أكبر وأنه طريق إلى الله ومدخل إلى جنة الخلد التي يستحقها محمد، ونستحق نحن أن نظل مبتهجين بمحمد، فهو ليس خسارة، ومن عرف محمد البنكي حق المعرفة فإنه يعرف أن محمدا مكسب أبدي ولا يضيع ولا يغيب ولا ينتهي.

إنها المعاني التي علمنا إياها محمد، وهي الحضور الذي لا يغيب. رحمك الله أيها الغالي، وأنت الحب الذي لا ينتهي.

****

ألقيت في الحفل التأبيني الذي أقامته جامعة البحرين في السادس والعشرين من مايو 2010

الخميس القادم حزن الغذامي: ماذا يخفي وراءه؟ الرياض
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة