تمرّ السنون، وتتعاقب العقود، ويبقى العلامتان حمد الجاسر وعبدالله بن خميس، وبلا منازع، شيخي الصحافة في نجد، منذ أن أطلت صحيفة «اليمامة» على المشهد الاجتماعي في ذي الحجة عام 1372هـ (أغسطس 1952م)، ثم تلتها صحيفة «الجزيرة» في الظهور بعد سبعة أعوام (ذو القعدة 1379هـ - أبريل 1960م).
وإذا ما تمعنّت في الصورة الذهنية التي انطبعت في مخيّلة المجتمع السعودي ومثقفيه بخاصة، فإنك لن تستطيع أن تفصل بين ابن خميس الأديب والناقد عن ابن خميس الجغرافي وابن خميس الإعلامي، فهو علاّمة متعدد المواهب والاهتمامات، أجاد القصيدة الشعبية كما أجاد الفصحى، وملك ناصية العبارة، وأمسك بتلابيب براعة النقد الاجتماعي الملتزم، وجمع بين التوثيق الجغرافي والتاريخي لهذا الإقليم في الجزيرة العربية، واستحوذ على الريادة في رصد وديان الجزيرة ورمالها وجبالها، وصار مرجعاً في معرفة أصحاب الأقوال الشعرية والأمثال الشهيرة، فصيحها وعاميّها.
وخاض، وهو الدارس والمثقف ثقافة دينية أصيلة، في غرائب التنزيل، وشواهد الآيات في مؤلفات فاقت، في هذه الفنون كلها، خمسة وعشرين عنواناً بلغ بعضها اثنين أو أربعة أو خمسة أو سبعة أجزاء.
إن عبدالله بن خميس – الذي ولد في عام 1339هـ (1920م) في قرية الملقى شمال الدرعية، وتخرج في كلية الشريعة بمكة المكرمة عام 1373هـ (1953م) وتكحلت عيناه بقراءة صحافة الحجاز، وما يرد من الصحف المصرية، وبما هو متاح من عيون كتب الأدب في مكتبات أم القرى، وقدح زناد فكره بخجل تحت اسم مستعمار (فتى اليمامة) عندما كان طالباً في دار التوحيد - يُنصّب مديراً للمعهد العلمي في الأحساء، فيفرج عن رغبة مكنونة في نفسه، إنها الصحافة التي وعى تجربتها من خلال جريدة البلاد وصحيفة اليمامة، فقاد طلابه في الهفوف لإصدار العدد اليتيم من مجلة «هجر»، (1376هـ - 1956م)، لكن ذلك اليتم يتحوّل إلى ريادة صحفية للأحساء ولابن خميس معاً.
تدفعه تلك التجربة بعد ثلاث سنوات، دفعاً قوياً نحو خوض غمار الصحافة من أوسع الأبواب، مجلة الجزيرة، التي أكملت في هذا العام – مع امتدادها صحيفة الجزيرة – نصف قرن، وكأن احتفاءنا الليلة احتفالٌ باليوبيل الذهبي بصدورها، فهي تحولت بقيادته عام 1383هـ (1963م) من صحيفة فردية الملكية يحتكر امتيازها ويرأس تحريرها، إلى مؤسسة صحفية عملاقة تتربع وشقيقتاها (اليمامة والدعوة) على أركان هذه العاصمة الحبيبة، ليظل ابن خميس، مؤسسها وقائدها وعرابها ورمزها إلى اليوم، حيثما ذكرت الجزيرة وأينما كتب تاريخُها.
في داره في شارع الخزان بالرياض، ولدت فكرة مجلة الجزيرة، متخّذة من أحد دكاكين شارع السويلم، محضناً لها في تلك المرحلة المبكرة، حيث كانت تطبع في أول مطبعة تأسست في الرياض على يد صنوه العلامة حمد الجاسر وآخرين، وقد استمرت في الصدور أربعة أعوام، لم يكن يوجد خلالها في العاصمة من صحف سوى صحيفة اليمامة الرائدة، وصحيفة الجزيرة هذه، وصحيفة القصيم، ومجلة الغرفة التجارية،ومجلتين حكوميتين.
ثم كانت جميع الصحف والمجلات ذات الملكية الفردية على موعد في عام 1383هـ مع تغيير جذري في ملكية الصحافة الأهلية، قضى بتحويلها من الملكية الفردية إلى الملكية الجماعية الأهلية، التي صارت تعرف منذ ذلك العام بصحافة المؤسسات، وهنا توقفت تلك الصحف بما فيها الجزيرة لتفسح المجال للوضع الجديد أن يتبلور.
لكن عبدالله بن خميس، الذي عشق الصحافة وأبدع في ميادينها، وسجل قصب السبق في ريادتها، يستجيب لرغبة الدولة في التحول نحو صحافة المؤسسات، فجمع مجموعة من رجال القلم والأعمال، في دارته الجديدة في شارع جرير بالملز، كان من بينهم محمد الجميح وعثمان الصالح وعبدالرحمن السديري وعبدالله السديري وعبدالعزيز المسند وصالح العجروش وعبدالرحمن المعمر وعبدالعزيز السويلم وآخرون، ليتقدموا في شهر رمضان المبارك من عام 1383هـ بطلب الترخيص لقيام مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر، التي تصدر من جديد صحيفة أسبوعية يديرها ابن خميس ويرأس تحريرها عبدالعزيز السويلم، ما لبثت بعد ثمانية أعوام أن تحولت إلى يومية (12-8-1392هـ - 20-12-1972م)، وكانت قد انتقلت من دكان شارع السويلم، إلى شقة في الصفاة، ثم إلى مبنى في شارع الناصرية، فمقر شامخ يقف – بمطابعه الفاخرة – يصافح القادمين إلى العاصمة من شمالها.
على أن السيرة الإعلامية للشيخ ابن خميس لا تقف عند حد إصدار صحيفة الجزيرة وتحريرها، وإنشاء مؤسستها الصحفية، بل تتعدى ذلك إلى أربع محطات أخرى:
الأولى: أنه شارك في عضوية المجلس الأعلى للإعلام منذ بدايته عام 1396هـ (1976م) ولمدة ستة عشر عاماً، عندما اعتذر في عام 1403هـ (1983م) عن عدم الاستمرار في عضويته بسبب ظروف صحية ألمت به آنذاك.
الثانية: قيامه في عام 1397هـ (1977م) بإنشاء مطابع الفرزدق، التي تعد اليوم واحدة من دور النشر والطبع المتميزة في الرياض، وكان لها إسهام مشكور، بشكل خاص، في نشر إبداعات الشباب، وكتابة مقدمات لمؤلفاتهم.
الثالثة: أنه ولمدة ثلاثة أعوام (بين عامي 1402هـ - 1405هـ) واظب على تقديم واحد من أكثر البرامج الإذاعية الثقافية شعبية في حينه، وهو برنامج: من القائل، الذي كان يجيب فيه، على غرار البرنامج اللندني «قول على قول»، على أسئلة المستمعين عن قائل بعض الأبيات والأمثال في التراث العربي والشعبي، وقد حوّله إلى كتاب مطبوع من أربعة أجزاء.
أما الرابعة: والأخيرة، فإن عبدالله بن خميس، الذي نشر، وعلى استحياء، شيئاً من إنتاجه الشعري وكتاباته الأدبية والاجتماعية المبكرة في أم القرى وجريدة البلاد وصحيفة اليمامة ومجلة المنهل، فإنه احترف الكتابة الصحفية بعد صدور مجلة الجزيرة، فانتشرت كتاباته وأبحاثه في عدد كبير من المطبوعات المحلية والعربية، وقد رصد العدد الأول من السنة السادسة لعام 1421هـ من مكتبة الملك فهد الوطنية قائمة وراقية (بيبليوجرافية) بأبرز آثاره.
وهو يريح الباحث من عناء العودة إلى قواعد المعلومات وكشافات الدوريات، إذ جمع معظم أبحاثه ومقالاته في سلسلة كتابه: من جهاد قلم الصادر في ثلاثة أجزاء في مجال الكتابات الأدبية النقدية، والبحوث والمحاضرات، وفي فواتح الجزيرة (أي مقالاتها الافتتاحية)، التي ربما تتفوق أو في الأقل تماهي ما يطرح الآن في جرأته والتزامه بالموضوعية، حيث يظل كتابه: فواتح الجزيرة رغم مرور أكثر من عقدين على صدوره يزداد قيمة وشأناً، وإن كان لا يتضمن كل المقالات التي نشرها في مجلته بسبب جرأتها.
وأخيراً
لم يكن ابن خميس ناقداً اجتماعياً وسياسياً وأدبياً فحسب، لكنه كان منظّراً إعلامياً يدعو لقيام صحافة ناضجة تسيّرها الأفكار المستنيرة وتحررها الأقلام الواعية النزيهة المحررة من الأهواء، المبتعدة عن الأغراض ذات الفقه السياسي والأيديولوجي، المدركة لمصائر الأمم ولرسالة الصحافة ولدورها البنّاء.
وهو، وإن كتب الكثير، وعاش هموم مجتمعه ودافع عن آماله بفكر واعٍ، وكان له دور كبير في الذود عن قضايا الأمة، وأفسح المجال واسعاً للقلم النسائي بالتوقيع الصريح ولمناقشة قضايا المرأة، وقاد حملات صحفية جريئة تتعلق بشؤون الزيت والماء والعمل، بأسلوب ينبض بالصدق والحماسة والوطنية والأصالة، فإنه قد عبر عن فكره الإعلامي شعراً في مقطوعات عدة، وتغنى بحرية الصحافة، وتشبب بفتاة الفكر، كتلك القصيدة الطويلة التي يقول فيها:
ذات الجلالة ما تسامت سلطة
إلا وفوق سموها سلطاتُها
من لي بها فصحى الحقيقة طلقة
فوق الرقيب تكون حرياتها
أو تلك التي يقول في مطلعها:
بعينك ما أعيا الصحافة معناه
نظائر في دنيا الوجوه وأشباه
بيان، ولكن لا ينهنه سحره
وفكر ولكن عز ما أبدع الله
وبعد:
فهذه سياحة عجلى في مسيرته الإعلامية، التي دونتُها، بإيجاز مماثل، في كتاب أصدرته قبل عامين متضمناً حواراً تلفزيونياً توثيقياً، لم يسبق عرضه، سجلته معه قبل ثلاثة وثلاثين عاماً،أما من أراد التوسع في سيرته، فلينظر في الكتب الثلاثة التي أصدرها عنه محمود ردّاوي، وسعد بن خلف العفنان، وهيا السمهري. إن ابن خميس علمٌ رفيع السارية، ونخلة باسقة من وادي حنيفة، وعرضة نجدية ثقيلة الإيقاع والإبداع، ورابية من روابي اليمامة، وواد من وديان الجزيرة، وطود شامخ من جبالها، وهو في الأدب والجغرافيا والإعلام من هو: عبدالله بن خميس وكفى.
***
ورقة مقدمة في احتفاء ثلوثية بامحسون
الرياض