وما دامت هذه قراءة نفسية مستمدة من فكر يونج وأستاذه فرويد، فلا حرج إن نظرنا إلى ثلاثية الانفصام على أنها التقسيمات الشهيرة للنفس البشرية بين الأنا والأنا العليا والأنا السفلى، حيث يمثل توفيق، ولاسمه هنا دلالة غاية في الأهمية، ذلك المستوى من الوعي الذي يوفق بين رغبات النفس الجامحة وبين العقل الكابح. كما أن النموذج الذي يقدمه يونج للوعي البشري يقسم النفس إلى وعي يضيئه النور ولا وعي يتبعه كظله. والظل منطقة مظلمة تنغلق على ما تختزنه النفس من ذكريات وأمنيات وطموحات ورغبات دفينة، بعضها من ماضي الشخص وأخرى من ماضي البشرية. حين يشتد الصراع بين النور والظل يطفو مرض الشيزوفرينيا، وهي الصورة النموذجية لهذا المرض والصراع الناتج عنه الذي جسده لنا الأدب في الرواية الخالدة: دكتور جيكل ومستر هايد.
ويفسر هذا الفصام سر بنية النص الثلاثية وتعدد الأصوات الساردة وتشعب المنظور الحكائي والوحدة الأسلوبية للمبنى الحكائي، فالشخصية الواحدة تعاني انهيار الذات المتكاملة، الذات المغتالة والمسترقة. يظهر إذاً أن الوحدات الحكائية التي بدت مستقلة هي في واقع الأمر تتداخل وتتعألق في تعاطيها مع ثيمة الاحتيالية حتى تكاد تكون المرآة للأخرى، وأن تجاورها لم يكن عشوائياً فتواشجها يجعل المعمار القصصي متمازجاً إلى حد التوافق والاقتران. كل مسارات السرد التي حسبناها منفصلة راحت تتداخل وتنزلق إلى بعضها لتكمل بعضها الآخر وتدعمه، بل أصبحت بمثابة مرايا عاكسة في بناء متعدد الوجوه. أما تعاقبية السرد وتناوب السارد بالضمير الغائب (هو) أو بالضمير المتكلم (أنا) فيشير إلى ذاكرة واحدة متشظية إلى مجموعة من الرواة وكأن المتعدد لا يحيل إلا على واحد قابع هناك خارج شبكة السرد المتداخلة، وبأن الصوت الذي يتولى السرد ليس هو أحد الشخصيات، لكنه قناع يضعه السارد الضمني الذي يستخدم الضمير هو كسارد عليم.
ويتفاقم الفصام عند المحتال حتى يصل به إلى الاستحالة والانسلاخ Metamorphosis ، فهو نصف إنسان ونصف حيوان، له طبيعة بشرية - حيوانية وطاقة وحشية تفسر امتلاكه القدرة على التحول من شكل إلى شكل آخر anthropomorphic. وخرافة تحول البشر إلى حيوانات والعكس متجذرة في أساطير الشعوب، لكن الذئب هو أكثر مخلوق بث الرعب في قلب الإنسان وحرك خياله، وفي ثقافة هنود أمريكا الشمالية يتماثل المحتال مع الذئب القيوطي Coyote. أما أقدم وأشهر الأساطير في تاريخ هذه المخلوقات المتحولة فيسمى ب(المستذئب werewolf) الذي يتحول في ليلة يكتمل فيها القمر إلى ذئب في حجم إنسان تستطيل أظافره وتبرز أنيابه ويفسد في الأرض ليلة كاملة إلى أن يطلع الفجر فيعود لطبيعته.
وإذا وسعنا مفهومنا التقليدي للشخصية والذي يعتبر الكائنات الآدمية وحدها شخوصا روائية، فسنجد أن الشخصية ليست سوى علامة يمكن أن يتمثلها شيء جامد أو فكرة مجردة أو حيوان، حينها يصبح الذئب في رواية (فخاخ الرائحة) سمة شكلية لتعدد الهويات وقناعاً رابعاً للسارد الضمني يضعه ليعبر عن الذات الملبوسة بالنفي والاغتراب والمتصدعة داخلياً نتيجة للاقتلاع وفرض الهامشية. ف»الذئب» قناع رمزي لحرية مطلقة وسيادة الطبيعة في أشدِّ صورها بدائية وفوضوية ووحشية. ويبعث فينا المحتال الذئبي شعور دفين بأن في داخل كل منا وحش يصعب ترويضه رغبات مكبوتة تنبع من ينبوع الوعي الجمعي يصعب السيطرة عليها.
يبدأ النص وينتهي في المحطة حيث ينضج الطعم الخداعي المخالف للتوقعات. المحطة هي مكان الوصول والانطلاق، يصل إليها طراد فوضوياً مجزءاً مشوشاً وبدون معرفة للذات، وينطلق منها مستسلماً للأمر الواقع. والمحطة بؤرة مركزية للمغادرة والقدوم في أرجائها يتم التجمع النهائي، وفيها يجد طراد نفسه وجهاً لوجه مع أجزاء ذاته المتفرقة ويواجهها ويتوحد معها فيزداد وعياً لدواخله ويتعمق فهمه لمعاني وجوده ويتماسك إدراكه بزوايا نفسه المشتتة. في المحطة ينضج الإحساس بالذات ليشعر أنه جزء من كيان أكبر، جزء من شخصية جماعية تتبلور وتتقارب أجزاؤها وتصل معرفتها بذاتها إلى منتهاها فتعيد تجميع شظاياها المتناثرة.
إن قارئ سرد الحيلة متحايل عليه، فإن كان ينتظر من السرد تمثيلاً للواقع فسيجده تضليلاً وتلفيقاً بلغة الكتابة التي تعمل ككساء سحري، قناع يحجب ما يقول، ويخفي ما يعلن. السارد المحتال في فخاخ الرائحة يلتقط خيوط الحكي ويعيد نسجها في نظامه الخاص، يملأ فراغات السرد الواقعي بالمفترض موضحاً أن الحقيقة غير ثابتة وأن لها أكثر من منظور، يغرق النص في الخيال، ويوثق بهوس كبير ليعطي مصداقية عالية لما هو زائف أصلاً، مثل اسم ونسب ناصر الملفق. المحتال في الفلكلور العالمي يتمتع بطاقة ابتكارية، لذا فهو حكاء ما هر وذو ألاعيب شتى يخدع بها الآخرين، ومن هنا يستمد قدرته على تأليف الحكايا وتوليد أشكالا سردية واختلاق عوالم افتراضية لا أساس لها بقوة الكلمات وسحرها.
المحتال إذاً ليس فقط شخصية داخل النص، بل هو عامل أسلوبي ولغوي يستخدمه الراوي كآلية نصية وأداة سردية ليدير مناوراته من خلف كواليس الأحداث من أجل خلط مدارك القارئ، وبهذا يصبح مؤلفاً لصيغة روائية زئبقية ليس فقط كمتحكم في التكنيك، ولكنه هو التكنيك بذاته. السرد الاحتيالي ينتج كتابة مقنّعة، وهم الواقعية المُطلَقة، كتابة ذات مخطط ظاهري وآخر مستتر ومتوار، كتابة تنصب فخها لتلعب على عقل القارئ حسب خطة محكمة في داخلها كذبة على كل مستوى في النص فتخيب كل التوقعات القرائية.
المتحايل يبني، لكنه أيضاً يقوّض الأبنية الراكدة، ونراه داخل البناء السردي يثير الفوضى ويزيل الحواجز بين الأنواع الأدبية ويخلط بين الواقعي والخيالي والمأساوي والكوميدي والمغامرة والاستقرار، وفي تفاعله مع الخطابات التراثية والشعبية يتحدى الأعراف المتوارثة من خلال آلية «إزالة الأقنعة وفضح الأوهام» demystification ورفع ذلك الساتر الشفاف الذي يفصل الحقيقة عن الخيال. (كما فعل في حكاية أخيه سيف الذي خطفته الجنية، وحكاية حمل خيرية بنت العطار من القمر). يستخدم السارد استراتيجيات المحتال في الشكل والموضوع فيتحول البناء السردي كله إلى حيلة محبوكة تجعل القارئ يدرك أن التأليف في حقيقته لعبة احتيالية تجذبه وتقوده إلى فخاخ سردية كثيرة بمراوغات وحيل تمثيلية كنائية. هكذا يهمس يوسف المحيميد في أذن قارئه:
« لا تتعجل الذهب، فقط واصل اللعبة معي إلى آخرها....». في آخر اللعبة نكتشف أن تفخيخ السرد عند المحيميد قد أضاف بعدا جديدا لمفهوم المحتال الميثولوجي في ابتداعه نصاً مخاتلاً يلعب بأكمله دورا إحتيالياً، فرواية (فخاخ الرائحة) من هذا المنظور الأنماطي تظهر تقنية سردية عالية وحبكة دقيقة تكسر النمطية الروائية وتفتح أفقاً لا محدوداً من التجدد والمغايرة.
lamiabaeshen@gmail.com
جدة