منذ (أفلاطون) الذي رأى الفن مجرد انعكاس وإعادة إنتاج باهتة للعالم، ومنذ (أرسطو) الذي ألَّف كتابه (فن الشعر)؛ ليرد على أستاذه، منطلقًا من نظرة تؤمن بأن الفن يفهم الطبيعة ويكملها، وأنه (أي الفن) ابتكار ورؤية وإضافة، وليس مجرد نسخ مشوهة عن أصل متعال.. منذ ذلك التاريخ وقضايا الفكر والفلسفة والنقد تناقش مسائل علاقة الطبيعة والثقافة ودور اللغة في العالم ودور الفن والأدب في هذا الوجود الإنساني والكوني: ماذا تفعل اللغة؟ وماذا يفعل الإنسان؟ وأين تقف مسألة الكتابة في المشهد الكوني؟
في هذا السياق تندرج - وإن بشكل غير مباشر - مقالة (فيليب سوليرز) المعنونة (الأدب والكلية: مرآوية مالارميه: هل ندرك ما يعنيه فعل كتب). يقول (سوليرز) إن (مالارميه) الذي قدم نفسه أولاً بوصفه المكمّل لمسيرة (بو) و(بودلير) تغير بعد ذلك؛ إذ وجه نقدًا لاذعًا لقصائده البودليرية الأولى، وأعلن إحدى المسلَّمات الأساسية لفكره وهي: الحيادية الحتمية للمؤلف. وقد قال إنه واجه العدم والموت أثناء كتابته لقصيدة (إيرودياد) و(تجويفة للبيت الشعري)؛ فالبؤرة الأكثر صعوبة (وفق مالارميه) تكمن في (إيجيتور)، و(إيجيتور) تعني (إذًا) في اللاتينية. وتبدو عنده (إيجيتور) وقد حلت محل (إذًا) أخرى: «تلك الحاضرة في كوجيتو (ديكارت). (ديكارت) الذي يشكل مع (شكسبير) المرجعية الدائمة ل(مالارميه). مع (مالارميه) فالكوجيتو (أنا أفكر إذًا أنا موجود) يصبح إذا أردنا الدقة: (أنا أكتب إذًا أنا أفكر في السؤال: من أكون؟).. هذا الإيجيتور سيغدو بالنسبة إليه.. اللغة وقد وصلت إلى أحد أدوارها الختامية، إلى خلاصتها، مكان النفي والغياب ولكن أيضًا الوعي بالذات داخل الموت».(1)؛ ولذلك يعتقد (سوليرز) أن (مالارميه) كان يرى أن كل شيء يجري كما لو أن الأزمة العنيفة التي يتستر تحتها الأدب تطرح السؤال ذاته غير المحدد للمعنى.
ويقول (سوليرز) إن (كلوديل) وجد في (مالارميه) أول كاتب وقف أمام الخارج كما لو أنه أمام نص (وليس أمام مشهد)، وساءل نفسه بوعي: ماذا يريد هذا أن يقول؟ والحال أنه يقصد: هذا يريد أن ينكتب.(2)
وما دام أن فعل فكر يعني كتب من دون أقلام أو مستلزمات وفق (مالارميه) فإنه يفترض من خلال الكتابة مبدأً للتأويل خاصًا وكونيًا، وحسب (سوليرز) لا بد أن تُظهر كتابة (مالارميه) هذا التطابق بين الإنتاج والتأويل، إنها المسؤولية الكبيرة التي تجعل من عمل الكتابة ثورة كبيرة بحيث يتوجب حمل مسؤولية (إعادة خلق الكل) (3). يقول مالارميه: «هل ندرك حقًا ما الذي يعنيه فعل كتب؟ إنه ممارسة قديمة وشديدة اللبس، ولكنه في الآن نفسه ممارسة محكمة وبالغة العناية يرقد خلالها المعنى في خفايا القلب.. سيكون لهذه اللعبة الخرقاء للكتابة بأن تدعي.. بعض ما يجب عليها من إعادة خلق للكل، من خلال تذكرات مبهمة حتى نثبت بأننا موجودون هنا فعلاً حيث علينا أن نكون.. إذا لم تكن الكتابة على هذا النحو، أي جمعًا لكميات مضافة إلى العالم بإمكانها أن تجعل وسواسه يضاهي مسلَّمات باذخة ومرموزة، باعتبارها تشكِّل قانونه فوق الصفحة الشاحبة ذات الجرأة الكبيرة - فأعتقد حقيقة بأنها ستكون كتابه مضللة، بل وأقرب إلى الانتحار». (4)
هكذا تبدو الذات في علاقتها بالعالم المنعكس في الكتابة مجرد نتيجة لغتها. ومن هنا تظهر أهمية وقوف (مالارميه) أمام العالم متسائلاً كأنه أمام نص أو صفحة مكتوبة، وليس كأنه أمام مشهد يقول ذاته دفعة واحدة. فرق بين ما يُقال وما يمكن أن يُقرأ مكتوبًا. ومن هنا كان سؤاله (أنا أكتب إذًا أنا أفكر من أكون) حيث الكوجيتو الوجودي هنا متلازمة الفكر والكتابة: أن تفكر يعني أن تكتب، وأن تكتب أنت تعلم أو هذا سبيلك للعلم بالوجود.
1- فيليب سوليرز، مقالة بعنوان (الأدب والكلية: مرآوية مالارميه: هل ندرك ما يعنيه فعل كتب؟) مجلة كتابات معاصرة العدد 71 ص 62.
2 - السابق ص 62.
3 - السابق ص 63.
4 - السابق ص 63.
* * *
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7845» ثم أرسلها إلى الكود 82244
Rafef_fa@maktoob.com
الرياض