معرفة من أين ينبع الشعر، ومعرفة قيمة الجزيرة العربية وثراء مكنوناتها، ومن قبل الاعتزاز بها، بدل نكرانها، أمور في غاية الأهمية لأي مثقف منتمٍ، ذي موقف وثبات.
ما نقصد هنا أننا نتابع عدداً كبيراً من أدباء هذه الجزيرة، المرتبطين بها، لكنهم للأسف لا يجيدون الإصغاء لصوت ماضيها، وعظمة تاريخها، ولا يعرفون أنهم يقفون على أرض صلبة، يمتزج بها روح التراث، مع نبض الإبداع، فتنهمر أمطار، وتجري أنهار، ويورق شجر، هو بالضرورة لا يشبه إلا بهاء خضرته، في صحراء تعجب حتى هي كيف أنبتته، بل هي تتباهى كل نسيم عابر، أو كلما هبت شمالية بجماله، وبهاء طيره المغرد العالي.
إذاً المشكلة تبدأ من هؤلاء المنساقين وراء نجوم غيرهم، وتخومٍ غير تخومهم، متناسين إشعاع شموسهم..
نحن هنا لا نصادر رغبة أجيال في التعرف على نتاج حضارات مختلفة، بل هو واجب نفرح به عندما نراه مشرقاً في عقولهم، فكرهم، ونتاجهم.
ما نقصده هو ضرورة الاعتزاز بما يحفل به الوطن من تجارب ثرية، متتالية، ومتوالية، من قديم وجديد.
كنت أنظر بحسرة إلى أحد الشعراء الشباب الذين يريدون نفي كل ما قبلهم، كل تلك التجارية الثرية الباهرة الرائدة، لكنهم يرون في بيضون أو الحاج أو أدونيس أو غيرهم نماذج يقتدى بها، ولكن لماذا؟!
هنا مربط الفرس، هنا ما يعجز اللسان عن وصفه من حرقة تهز الفؤاد؟!
يبدو أن المشكلة هي في التأسيس، وفي الغرس الأول، أوليست كذلك؟!
بمعنى لماذا لا يعرف روائي أو قاص أو شاعر تراثه قبل أن يقلد أو يقتدي بمشية غيره؟!
تكمن قيمة الاختلاف في التشبث بالجذور، والاعتداد بالهوية والمكان، ولعل في ماركيز خير مثال على ذلك، فهو رغم ثقافته الشاملة، وقراءاته المتنوعة، ظل محافظاً على روح وثراء تربته الأولى. كذلك نجيب محفوظ، وكل من وصل للعالمية عبر خصوصيته والتفاته للتفاصيل الأولى.
أعتقد أنه من المهم للأديب أن يدرك، ولو متأخراً، بأن العودة للينابيع، والتشبث بالهوية، والتراث بتراكماته، بعيداً كان أم قريباً، والتجديد المستند على قاعدة وأرض خصبة، مع الإبقاء على نظرةٍ متريثةٍ للجديد في العالم، يشكل حلاً أمثل للتفرد والاختلاف. أما التنكر للماضي، والتشبه بالآخر لدرجة الاستلاب فلا يقود إلا لكائن مسخ هجين، لا هو الذي تشبث بتربته، ولا هو الذي انغرس في تربة الآخرين فأثمر.
mjharbi@hotmail.com
الرياض