إنّ أقدار الله في خلقه عجيبة، وتصاريفه مدهشة، وهدايته لخلقه تحار فيها العقول، ولا تدركها الأبصار، فمهما أراد من شيء كان، وإذا قدر شيئاً وقضاه لابد من وقوعه كما أمضاه: {سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ}.س
كانت هذه مقدمة للحديث عن مريم جميلة، تلك اليهودية الأمريكية التي هداها الله تعالى للإسلام في سياق عجيب، وجذب مدهش، وفي زمن لم يكن فيه للإسلام رواج، ولا للمسلمين سوق بارزة، ولكنها الهداية، لا تعرف الحواجز، ولا تقف دونها العقبات، وتنفذ إلى القلوب نفاذ الشمس إلى الأرض، وتسري إلى العقول سراية الضياء إلى الظلام.
ولدت هذه المرأة العظيمة في نيويورك (1934) لأبوين يهوديين من أصل ألماني، واسمها كان (مارجريت ماركوس)، وكان لطريقة نشأتها في تلك البيئة المتلوثة بركام الجاهلية دليل على عناية الله تعالى بها، فهي لم تذق الخمر في حياتها ولم تلتق بالرجال، ولم تحضر حفلات القوم، وكل هذا عجيب من مثلها، وكانت وهي في طفولتها تحضر الدروس التي تقيمها مدرسة الأحد اليهودية، وتسمع الحاخام وهو يخبرهم بأن العرب واليهود هم أولاد إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا أفضل الصلوات وأتم التسليم، فصارت تتمنى أن تذهب إلى فلسطين لرؤية أولاد عمها والاجتماع بهم، ثم إنها صدمت بعد ذلك يوم رأت أبويها يحتفلان بقرار التقسيم سنة 1947، فصارت تناقش أبويها بقوة في إقامة دولة اليهود على أحزان العرب وآلامهم، فعجبا من كلامها!.
ثم إنها أقبلت على القراءة المطولة والعجيبة من فتاة مثلها، فقد قادتها القراءة إلى الهداية، وأبعدتها عن الغواية، وقرأت أول ما قرأت ترجمة القرآن للبريطاني المسلم محمد بيكتهول، فتأثرت بما قرأت وكان لقوة الترجمة أثر في حياتها لم يزل، وقد قارنت بين هذه الترجمة وترجمة يوسف علي التي وصفتها بأنها ضعيفة وتبريرية، أي أن المترجم لم يستطع أن ينفك عن أسر النظرة الغربية وهو يترجم معاني كتاب الله تعالى، وهذه ملاحظة جيدة منها تدل على تعمق وفهم.
ثم إنها عثرت في مكتبة نيويورك العامة على كتاب (مشكلة المصابيح) مترجماً إلى الإنجليزية وهو كتاب في الحديث النبوي الشريف فعكفت عليه حتى فرغت منه!! ولو سألت طلاب العلم منا اليوم ومثقفينا عن الكتاب فلربما جهلوا عنوانه فدع عنك قراءته.. ومن رحمة الله بها أنها اطلعت على هذا القدر الكبير من الأحاديث في مرحلة مبكرة، فهذا الاطلاع الواسع حماها من المنحرفين وضلالتهم، واستطاعت أن تفهم الإسلام فهماً جليلاً باطلاعها على مصدريه، والاغتراف من معينهما.
واصلت مريم دراستها الجامعية في جامعة نيويورك كلية الآداب لكنها مرضت فانقطعت عن الدراسة سنتين وتناوشتها الوساوس في مرضها من كل جانب حتى ألحدت مدة، لكن الله تداركها بمزيد من القراءة والاطلاع، والعجب أنها استطاعت بهمتها وأدبها أن تتصل بشخصيات إسلامية رفيعة القدر في عصرها، فقد أرسلت للبشير الإبراهيمي في الجزائر، وسعيد رمضان في جنيف، ومعروف الدواليبي في سوريا، وغيرهم من علماء القاهرة، رحمة الله عليهم جميعاً.. وقد دلها الأستاذ سعيد رمضان على أحد علماء مصر وطلب منها أن تراسله، وأرسلت رسائل عديدة لشخصيات أخرى، لكن كانت نقطة التحول في حياتها هي صلتها بالأستاذ المودودي رحمه الله، وقد عرفته بقراءتها مقالة في مجلة إسلامية كانت تصدر في جنوب إفريقيا، وكذلك كان الأستاذ سيد هو الذي نصحها بالاتصال بالمودودي، وقد أعجبت بالمقالة جداً، وأرسلت للأستاذ رسالة على عنوانه في باكستان، فما راعها إلا مجيء الجواب بعد قرابة شهرين فسرّت به أيما سرور، واستمرت المراسلات بينهما قرابة ثلاث سنين، وكانت تنقل له في مراسلتها ما يقال عنه في إعلام أمريكا وكندا، وهذه المراسلات اتضح منها عمق ثقافة مريم جميلة على الحد المدهش، فقد سألته عن شاه ولي الله الدهلوي وهو من الأعلام الكبار في تاريخ الهند ويعد من جملة المجدين، حيث إنها ظنت أنه أراد اختراع مذهب جديد خارج عن المذاهب الأربعة، فبين لها المودودي أن الشاه أراد أن يجتهد في تقرير المذاهب الأربعة والاستفادة منها جميعاً ولم يكن كما ذهب ظنها، وسألته عن إقبال الشاعر المشهور، وقالت له إن إقبال نصر القومية والوطنية في شعره، فصدقها الأستاذ المودودي وأخبرها أن هذا من الأمور التي بالغ فيها إقبال رحمه الله، وسألته عن أحد حكام العرب، وقالت إنه شخص يريد أن يعمل لنفسه ولمجده الشخصي، وأن كل مساعداته لإفريقيا وغيرها تصب في مصلحته الشخصية، وهذا منها فهم دقيق في ذلك الوقت العصيب.. يضاف إلى ذلك دعاوي القومية التي ضللت كثيراً، وكذلك دعاوي الاشتراكية في الوطن العربي ومالهما من وبال، وكان منهما الخسران المبين.. حيث ابتلي بهما كثير من الناس، وأن تفهم مريم جميلة تلك التيارات بهذا الوضوح في آخر الخمسينات فهذا يعد فهماً متقدماً.
وسألته عن أتاتورك والمآسي التي صنعها في تركيا، ولها قول جميل في النورسي حيث قالت عنه: (إنني لست مبالغة إذا قلت عنه إن ما تبقى من الإيمان الإسلامي في تركيا إنما يرجع إلى الجهود المثابرة لبديع الزمان النورسي)، وهذا المصلح توفي سنة 1379هـ 1960م، رحمه الله.. وسألته عن القاديانية التي كانت آنذاك في بداية انتشارها وتأسيسها لمساجدها الضرار في أمريكا، وهذه الأسئلة والمناقشات جرت في زمن يهوديتها، وهذا عجيب! فهي قد وصلت إلى مستوى رفيع من الفهم والنضج والوعي والثقافة وهي يهودية مما لم يصل إليه أكثر المسلمين!!.
ثم شرح الله صدرها في سنة 1381ه - 1961م فذهبت إلى إمام مسجد في بروكلين في نيويورك وهو داود فيصل وأسلمت على يديه، وسمت نفسها ب(مريم جميلة)، حيث تداعت عليها ابتلاءات ومحن، ومن ذلك حينما كانت تذهب إلى المسجد وتناقش المسلمين الذين كانوا يغضبون من آرائها عن أتاتورك وأمثاله في بعض الوطن العربي!! وجاءها طالب عربي في الجامعة ليخبرها أن على المسلمين أن يصلوا مع النصارى في كنيسة الجامعة، فإن لم يستطيعوا فعلى الأقل يحضروا دروس الأخلاق النصرانية في الجامعة!
ورأت مركزاً عربياً في نيويورك فولجته سعيدة به لتفاجأ بالخمور تملأ المركز من أرضه إلى سقفه!!
وفوجئت بامرأة فرنسية موظفة في المركز أخبرتها أن زعيماً عربياً بدأ مرحلة جديدة في بلده، ومنها ترك الدين خلف ظهره!.
وكانت بعد تخرجها في الجامعة تبحث عن عمل فذهبت إلى المركز العربي في نيويورك، فما إن عرفوا أنها كانت يهودية فأسلمت وأنها تعارض أعمال وأفكار بعض الحكام التي تتعارض والدين القيم، أعرضوا عنها بعد مقابلة باردة.
وكانت تصلي الجمعة في المسجد، وقد اتفق الطلبة على أن يتداولوا الخطب فيما بينهم، فلما وصلها الدور كتبت خطبة رائعة عن وضع المسلمين وكيفية علاج أمراضهم، وألقاها أحد الطلبة نيابة عنها، فقامت عليها قيامة الطلاب لأنها ذكرت القومية ورموزها بسوء، وبينت أنها علة العلل في الجسم الإسلامي! وكان هناك من الطلاب من يشكك في الحديث النبوي، ومن كان يزين لها طريقة أتاتورك ونهرو!!.
وهكذا تعرضت لمحن كثيرة في عقيدتها وفكرها وثقافتها، وكانت تخبر الأستاذ المودودي بكل هذا، ثم بعد ذلك أخبرها والدها بأنهما سيتقاعدان قريباً ويتركان شقتهما ذات الغرف الأربع ويسكنان في شقة أخرى صغيرة، وأنها ليس بوسعها أن تكون معهما ولابد أن تدبر أمرها!! وقد كان عمرها آنذاك سبعة وعشرين عاماً فضاقت عليها الدنيا.
وكان الأستاذ المودودي قد عرض عليها مراراً أن تنتقل إلى باكستان لكنها كانت مترددة، ثم بعد كل الذي جرى عليها قررت الذهاب، وأقنع المودودي أمها وأباها وطمأنهما على ابنتهما التي ستجد كل الرعاية والاهتمام، ثم حزمت حقائبها وتركت نيويورك سنة 1382هـ - 1962م واتجهت إلى لاهور بالباخرة!! فيا لها من رحلة شاقة لكن الإيمان يذلل المصاعب والمشاق، والغريب أنها وقفت في الإسكندرية ونزلت من الباخرة، فصادفت مسجداً فصلت فيه، فسألها الإمام عن وجهتها فأخبرته أنها ذاهبة إلى الباكستان، فما كان منه إلا أن قال لها غفر الله له: هل أنت غبية في تركك لأمريكا؟!.
وعجباً أن يصدر من هذا الإمام ذلك! ولعله مقدار فهمه، وكذلك صبر جميلة على ما واجهته.. وأخيراً وصلت لاهور وأحسن إليها الأستاذ المودودي وأسكنها في بيته، ثم إنه زوجها لأحد أتباعه وهو محمد يوسف خان، وهو متزوج وعنده خمسة أولاد، لكن هذه المرأة العجيبة لم تمانع في التعدد، وقد أقتنعت به وهي ما زالت في أمريكا، وكانت تغضب من المانعين له أو من المبررين له تبريراً ضعيفاً، ثم طبقته في نفسها بلاهور، ومن الطريف أنها عرضت على المودودي الزواج منها لكنه اعتذر!!.
وأصبح لمريم جميلة ابنان وبنتان واثنا عشر حفيداً، وهي تعيش اليوم مع ضرتها في بيت واحد، وهي سعيدة وراضية، وقد بدأت حياتها في لاهور من سنة 1383 -1963م، إلى اليوم ولم تخرج منها أبداً، ولم تعد إلى أمريكا التي يتمنى كثير من الناس الذهاب إليها والعيش فيها!!.
وعاشت حياة إسلامية رائعة، وهي مشرفة على حلقات نسائية في بيتها، ومازالت تكتب الكتب والرسائل إلى الآن رعاها الله، وقد كلمها بعضنا بالهاتف ورجاها أن تأتي للحج لكنها اعتذرت مبدية كبر سنها وضعفها، وقد قيل لها إن مجيئك إلى المملكة سيكون له أثر كبير على المسلمات اللواتي سيعرفن قصتك أو عرفنها، لكنها اعتذرت، فقيل لها: ما هي وصيتك للمسلمين فقالت: ادرسوا القرآن والحديث، ولاتتبعوا الحضارة الغربية، وادرسوا الثقافة الإسلامية.
محطات مهمة في حياتها:
1- بقيت بضع سنين وهي ملحدة حيث إنها تجد ديناً يشبع نهمها الثقافي والفكري والروحي حتى أضاء حياتها الإسلام.
2- لبست الحجاب الكامل والتزمت به، وهذه أعظم رسالة لكل المسلمات اللواتي يتساهلن في لبس الحجاب، ويتهاون في فضله، فهذه السيدة التي كانت يهودية أمريكية أسلمت والتزمت بالحجاب الكامل السابغ.
3- حاولت أن تدعو والديها إلى الإسلام مراراً عندما كانت في أمريكا وبعد وصولها إلى لاهور برسائل متعددة لكنهما رفضا، وماتا كافرين سنة 1405هـ - 1985م، وهكذا الإيمان إذا تمكنت سماحته من القلوب لا يستطيع صاحبه إلا أن يدعو من يحب إليه ولا ينثني عن تلك المهمة الجليلة!.
4- عدد كتبها التي ألفتها قرابة (14) كتاباً - ومازالت تؤلف حفظها الله-، وكلها تفيض بروح وثابة، وفهم متميز، واطلاع وثقافة واسعة، وأفردت كتاباً عن مأساة فلسطين نشره الأستاذ المودودي في باكستان.
5- تعد المودودي أعظم مفكري القرن على أنها كانت تراسل شخصيات في مصر وآخرين ذكرتهم في الوطن الإسلامي في ثنايا ما كتبته آنفاً، وهذه شهادة ذات قيمة من امرأة واسعة الثقافة عظيمة الاطلاع مثلها.
6- ولعل القارئ الكريم يوافقني على عد هذه المرأة مثلاً مهماً في الوصول إلى الهداية عن طريق الإقناع الكامل الذي تولد إثر قراءة مطولة وثقافة واسعة ومراسلات مع عدد كبير من الشخصيات الإسلامية ذات مستوى رفيع، وهي بهذا تصلح أن تكون مثلاً رائعاً لبنات جنسها اللواتي يقرأن قليلاً، وثقافة الكثرة الكاثرة منهن ضعيفة.
وأخيراً أقول ما أعظم التبعة الملقاة علينا في إيصال الإسلام لكل البشر، إذ كان فينا أمثال مريم جميلة ممن يبحث عن الحق ويريده!!.
وهذا هاتف ابنها حيدر خان في أمريكا لمن أراد أن يتصل به، وهذا رقمها في لاهور، وأرجو من القراء أن يتصلوا بها ويهنئوها التهنئة المتأخرة:
(001423485143).. أمريكا.
(0092427155702).. لاهور.
وهذا بريد ابنها الإلكتروني:
(haidernha@hotmail.com).
جدة