في كتابه المهم: (شعراء نجد المعاصرون) اختار الأستاذ عبد الله بن إدريس قصيدة: (أنا الحرية) للشاعر إبراهيم العواجي، لتكون نموذجاً من نصوص الشاعر تسوُّغ وجوده في قائمة شعراء نجد.
وتبدو هذه إشارة ضرورية للحديث عن شاعر (لم يملأ الدنيا ولم يشغل الناس). فقط ظل يكتب لذاته وعنها، وللمرأة والوطن. وفي فضاء هذا الثالوث رسم قصائده وعبَّر عن همومه وأشواقه ومواقفه. وفياً لذاته كأنبل ما يكون الوفاء للذات والصدق معها.
* فللمرأة انتقى من سبحات الرومانسيين خطاباً شعرياً تجد فيه ذاته الخاصة، ورؤيته للمرأة من خلال خبرات الذات الوجدانية والقيم والمعاني التي تحكمها،وإذا ما نوَّع في هذا الخطاب، وسار به وفقاً لاتجاه يراه، فإنه لا يفتعل العوالم، ولا يصطنع الإحساس بالأسى والهروب إلى حواضن أخرى.
* .. وللوطن كتب ما يشبه الملحمة: (نقطة في تضاريس الوطن) وقصائد أخرى. يتجلى فيها الوطن مكون مهم من مكونات شعريته، ومحفزاً على الكتابة ومحركاً للشاعرية.
قصائده عن الوطن ابنة لحظتها، وكأنما هي سيرة للوطن، وتناسق مع محطاته المهمة وتحولاته الكبرى، يرصده أيضاً من خلال وعيه بالوطن وتصوره للكيان بكل مقوماته وأطيافه وأحلامه. توافيه لحظة التعبير فيذعن لسطوتها. بعيداً عن ترميم بنية القصيدة بمزيد من التكرار.
* أصدر متأخراً ديوانه الأول (المداد) 1988م، ولو قرئ بمقاييس زمنه واعتباراته الجمالية؛ فإن موقعه سيكون ضمن الصدارة في مسار الشعر (التقليدي)، و(التقليدية) هنا.. اتجاه وتجلٍ فني أصيل، وهي المعبر الأول والمختبر الأدق لقياس أصالة القصيدة وموهبة كاتبها-فيما أظن-.
* ولذلك فالعواجي تقليدي بامتياز. في دائرة الخيال الكلاسيكي تتمحور تجربته وهو يرتقي بها ويمدها بمقومات توفرها طاقاته الإبداعية ورؤاه الشعرية.
وقد لاحظ الناقد الدكتور محمد صالح الشنطي، في كتابه (التجربة الشعرية الحديثة في المملكة العربية السعودية) عناية الشاعر العواجي الشديدة بالإيقاع، ووصف إيقاعات شعره بأنها متقافزة وكأنها ضربات القدم في الرقصات الشعبية المألوفة، كما رصد المستويات الذهنية والعاطفية في بنية النص الشعري لديه، والمعجم الكوني والبيئي الخاص به.. والمنحى التراكمي والكمي في البناء، وكيمياء المفردة الشعرية في نصوصه، وهي ورؤى تحليلية، وملاحظات نقدية انتهى إليها الشنطي بعد استقراء تجربة الشاعر، وأسوقها باقتضاب هنا للدلالة على تميز تقليدية العواجي وأصالتها في جملة دواوينه: (المداد، قصائد راعفة، نقطة في تضاريس الوطن، مدٌ والشاطئ أنتِ، وشومٌ على جدار، فجرٌ أنت لا يغب).
وهذه الوفرة من الأعمال الشعرية يجد فيها دارسو الاتجاهات الفنية في الشعر السعودي، ما ينهض بالمسارات التي يبحثون لها عن نصوص تمثلها أو تدل عليها. فتجده لدى المعنيين بالاتجاه الإسلامي، وكذلك الاتجاه الوطني، والذاتي والإنساني، كما يجد الباحثون عن حضور المرأة في الخطاب الشعري، في شعره ما يوفي هذا الاتجاه حقه من الأمثلة والنماذج.
* كما أن هذه الوفرة ليست كمية فقط، بل إن اتجاهها النوعي- وفقاً لما أسلفناه- يحقق لها النصية الموضوعية التي يتلمس الدارسون في نماذجها ما يحقق لرؤاهم المثال والبرهان.
ولأن التقليدية من المشاجب التي يُعلق عليها بُعد النقاد عن هذا الشاعر أو ذاك، أو عدم عنايتهم بهذه التجربة أو تلك. وليس الأمر كذلك، وإلا لأصبحنا بحاجة إلى إدراك مبررات عدم عنايتهم بتجربتين من أهم نماذج شعرنا الحديث، لكل منهما سياقه المختلف وجودته الإبداعية، وإضافته لمنجز الشعر السعودي، وهما تجربة كل من الشاعرين: علي بافقيه، وإبراهيم الحسين. ومن ذات المنظور، نحتاج لمسوغات قيمية فنية وجمالية لعناية النقاد بتجارب متواضعة.
* وعوداً على العواجي وشعره، فلطالما طُنطن على منصبه الوظيفي، كدافع غير ثقافي، يُخلع منقصة على من عُنوا بشعره، وكمبرر لدى من يعوزهم السبب الموضوعي، لقراءة شعره أو التعاطي معه نقدياً. ولكنه وحده الذي لم يشغله هذا المأزق الصغير ولم يأبه به، بكل الحلم في مداراة خجل للسائلين، وبكل النباهة في التعاطي مع نماذج التفكير، ويكل الحرية في مواصلة الكتابة.
وقبلها وبعدها، ظل الشاعر العواجي وفياً لذاته ولشعره، ولنقرأ الحوارات الصحفية التي أُجريت معه.. لنطالع الصدق المجرد من ملابسات المنصب، والخلاص من حساسيات وحسابات تشغل كائنات العتمة.
* والمفارقة هنا.. أن هذه القضية الملحة على فكر بعض المحاورين، لا تشغله إطلاقاً، إذ ظل شاعراً منتجاً، يعي قدراته ويعرف موقعه ويكتب في الأفق المتاح لميلاد قصائده. بعيداً عن مناكفات مفتعلة، وتأويلات لا يسندها من واقعه الإبداعي شيئاً.
* إن أفول تجارب سبقته أو زامنته أو تلته، أو توقفها عند حد معين، يُحسب له، فلم يتوقف، ولم تدنيه تلك المناكفات من مساحة تخذله فيها القصيدة، ولم يصانع تيارات أو يراهن على مواقف الغير، ولم يمالئ على حساب شعره وشاعريته، وأظن شاعراً بهكذا سيرة جدير بأن يحترم.
* وعوداً أخيراً إلى مستهل هذه المقالة، فلقد رأى الأستاذ عبد الله بن إدريس أن تكون قصيدة: (أنا الحرية) نموذجاً يقدم العواجي من خلاله في كتابه: (شعراء نجد المعاصرون)، وسواء أكان ذلك مصادفة أم تعويلاً على خيار انطباعي محض؛ فإن الحرية التي كتبها وغنى لها شاعرٌ (لم يملأ الدنيا ولم يشغل الناس) كفيلة بأن تضيء سيرته الشعرية.. ولك أن ترد كل قصائده إلى منبع هذا الوعي بتلك القيمة الإنسانية الرفيعة، ولن تجد في قصائده إلا ما يحقق لتلك الحرية قيمتها ومعناها، حرية الفكر والتصور، وحرية الحلم والألم، وحرية الكتابة.