الحديث عن صديق حميم أمر يدعو إلى الحرج، فالبعض يعد هذا النوع من الأحاديث ضرباً من المجاملة، يشير إلى ما يتمناه لصديقه أكثر مما يعانيه، أي أن المثال لا الواقع هو جوهر هذا الحديث، وأنا بطبعي لا أميل إلى المجاملة، بل أؤمن بالحديث الشريف: «المؤمن مرآة أخيه»، ومن هذا المنطلق أتحدث.
تعرفت إلى الدكتور إبراهيم العواجي منذ سنين طويلة، تعرفت إليه إنساناً ومسؤولاً وشاعراً، وفي كل من هذه الجوانب من شخصيته، لم أجد أي حاجز يفصلني عنه.. بل كنت وإياه غصنين في شجرة واحدة، يمتد أصلها في تربة طاهرة، وفي عمق التراث العربي، وتشرئب فروعها متطلعة إلى مستقبل زاهر لأمة عريقة، والدكتور عواجي ينتمي إلى أسرة كريمة من المملكة العربية السعودية، ونشأ في بيئة يشيع في أرجائها عبق التاريخ، ويشع فيها نور الهداية، فتشرَّب من هذه البيئة الخصال العربية الأصيلة، وقيم الإسلام السمحة، ترى فيه تواضع الكبير، وسماحة القادر، وإباء المؤمن، وتستمع إلى حديثه فتلمس فيه وثوق العالم، ورهافة الشاعر، وشجاعة المخلص، يحفظ للصديق وعوده وعهوده، ولا يغيّره الزمن.. بل يزداد صلابة وشفافية، متفائل دائماً تزيّن وجهه ابتسامة صادقة، ينظر في الظلام إلى الفجر المقبل، ويرى في خضم العاصفة الهدوء القادم، لا يضيق بالشدائد.. بل يرى فيها اختباراً لمعدن الإنسان.. وقدرته على تجاوز ذاته وظروفه، يمتلك بصيرة ثاقبة تكشف له ما بين السطور.. وما خلف الأستار، صفات تجعل المقترب منه يود لو يطول هذا الاقتراب، وشمائل تجعل من الصداقة علاقة ودية ممتعة.
وعرفت الدكتور العواجي مسؤولاً يعتلي بجدارة مناصب رفيعة في الإدارة الحكومية للمملكة الشقيقة، مناصب تزوَّد لها بالعلم والخبرة في أرقى جامعات الولايات المتحدة.. حيث حصل على درجة الدكتوراه في الشؤون العامة، وقدَّر ولاة الأمر في المملكة ما يتمتع به الدكتور العواجي من كفاية ومقدرة.. فتولى في السلك الإداري عدداً من المسؤوليات الهامة انتهت به إلى منصب وكيل وزارة الداخلية، واستمر في هذا المقام مدة طويلة حتى تقاعده أثبت خلالها جدارة في الأداء الوظيفي جعلت الوزارة لا تستغني عن خبرته، فعُيّن بعد تقاعده مستشاراً لصاحب السمو الملكي وزير الداخلية، وأثبت الدكتور العواجي خلال عمله الطويل أنه أهل للثقة، لم ينوء بالأعباء الكثيرة التي يتطلبها منصبه.. بل اعتبر العمل عبادة، وخدمة لوطنه وللمواطنين.
وخلال مسؤولياته الحكومية عمل بكل جهده على تدعيم الروابط القوية بين المملكة العربية السعودية ودولة الكويت.. باعتبارهما شقيقتين في أسرة واحدة، ولم يدخر جهداً في جعل المملكة ملاذاً آمناً لكل عربي ومسلم يقصدها حاجّاً أو معتمراً أو زائراً.
وعرفت الدكتور العواجي شاعراً كبيراً، وعجبت أشد العجب كيف استطاع أن يوفق بين عمله الحكومي وإبداعه الشعري، عمل يحتاج إلى يقظة العقل، وصرامة الانضباط، وسيطرة المنطق، وإبداع يتميز بالانفلات من الضوابط، وغلبة المشاعر، واستبداد الخيال، وكيف تمكن خلال عمله المديد الذي يستغرق معظم وقته أن يصدر عدداً من الدواوين رسّخت له مكانة مميزة بين شعراء العرب المعاصرين. وقد قرأت بشغف شعره ووجدت فيه جاذبية البساطة الآسرة، والروح الشاعرية الأصيلة التي يفيض الشاعر عنها كما يفيض الماء من ينابيع الأرض دون أي جهد أو افتعال، وفي شعره يتبدى لك العواجي عاشقاً، ولا أتصور شاعراً بدون عشق، فالشاعر برأيي هو العاشق الأول يعشق كل شيء حوله: الطبيعة بما فيها من معالم، والإنسان بما فيه من قيم، والتاريخ بما فيه من قمم، والعواجي عاشق بامتياز، فالعشق كما يقول: «دمي جداول عشق» والعشق لديه هو بمثابة الوطن «العشق لي وطن».
ومعشوقه الأول هو الوطن «كان الهوى نجداً»، ولكن الوطن لا يقتصر على حدود إقليمية.. بل يمتد ليشمل الخريطة العربية على اتساعها، إذ إن كل جرح عربي هو جرحه، وكل فرح عربي هو فرحه، فهو ينتفض لغزو الكويت، كما ينتفض لاغتصاب القدس.
والضلع الآخر للعشق هو المرأة، ولكن المرأة هنا لا تظهر بجسدها، بل تظهر كرمز لعاطفة نبيلة سامية، وإذ يغدو الوطن قيمة عليا، وتتحول المرأة إلى مثال سامٍ، فلا بد أن يلتقيا في وجدان الشاعر
«توحدا دون لبس في دمي»
هكذا يصبح العشق في درجاته العليا، شغفاً بالمثل، واستنهاضاً إلى القمم، ويتحرر من كل ما يشوبه وينحدر به إلى منخفض الذات المغلقة.
والدكتور العواجي بجوانبه المتعددة كإنسان وإداري وكشاعر.. يبقى أحد الرموز الإنسانية في حاضرنا العربي التي سعت إلى تغيير بنّاء، واستوعبت الواقع المعيش.. وحاولت أن تنهض به نحو الأفضل، وهو ابن هذه الصحراء التي ظن البعض أنها أرض مقفرة، فإذا بها تفيض بالإبداع.
وإذ أُنهي هذه المقالة ولدي فيض من الكلام - أتوجه بالشكر لمن قرروا نشر هذا الملف عن الصديق العزيز الشاعر الدكتور إبراهيم العواجي.. فهو أهل للتكريم والثناء والود.