امتدت الذاكرة مع إبراهيم العواجي على مدى يقرب من خمسين عاماً منذ أن كنا في المعهد العلمي في مطلع الستينات من القرن الماضي ونحن نقلب صفحات كتاب (شعراء نجد المعاصرون) على أول صدوره محتفين به وفرحين بمفاجأته، وكنا نحصي أسماء شعراء المنطقة ما بين عنيزة والرس، وكان اسم العواجي يدور بيننا ونقرأ قصائده ويتصاعد الأمل في نفوسنا الشابة ناظرين إلى مستقبل أدبي لبلدنا عبر تلك الأسماء التي ضمها الكتاب، أقول هذا عن جيل كان يقرأ في كتب التراث وتختلط أخيلته بالماضي العميق مع الحاضر العربي حينها حيث شعراء الوطنية من عرب مصر والشام والعراق، وما يحدثه ذلك من تواشج بين ماض مجيد ولحظة كانت في وقتها مشرقة ومكتنزة بالوعود والوحدة والنهضة والتحرر الوطني والحضاري. تلك صورة كانت تتأسس في نفوسنا يوم ذاك.
ولذا فقد صار لأسماء شعراء كتاب ابن إدريس معنى خاص عندنا، وما زال طعم تلك المرحلة يعاود نفسي كلما مر علي اسم من تلك الأسماء وإبراهيم العواجي واحد منهم، خاصة أنه رجل أكد المعنى الوطني وظل يؤكده دوماً، سواء زمن البعثة في أمريكا وما كنا نعرفه عنه من مواقف وطنية ونضالية من أجل قضايا العرب الكبرى وفلسطين تحديداً وتوليه مهام قيادته في ذلك، ثم ما أعقب عودته من البعثة حيث تولى منصباً من أهم المناصب وأكثرها حساسية واحتكاكاً بمصائر الناس، وفي منصبه ظل ذلك الوطني الغيور الصادق والصريح.
وحينما أقول الصريح فإنني أشعر أنني أصف إبراهيم العواجي بكامل صفاته، وإني ما رأيته في مجلس إلا ورأيته مكشوف الطوية واضح الصفحة يقول ما يراه ببساطة وتلقائية حتى لكأنه نص مفتوح ومعلن، ولم يكن يغلف نفسه لا بالمنصب الذي كان فيه ولا بدعاوى العلم المكتوم بالأسرار والأسوار، وكنا نتندر دوماً بكلمة أحد المثقفين العرب الكبار الذي ضرب له أحد أصدقائه موعداً لمقابلة العواجي في جنيف على أنه أديب وشاعر سعودي، وبعد التلاقي اندهش المثقف العربي أن هذا الشاعر يعمل في منصب متقدم في وزارة أمنية، وقال حينها لو كان الأمن العربي بيد رجال مثل الذي رأيت لأمن الناس فعلاً.
هي صورة إيجابية تعود أن يخرج بها كل من عرف أبا محمد وجلس معه ولو قليلاً، وهذا ما وسَّع من دائرة التقدير له.
ولو جئنا إلى شعره لوجدنا أنه صورة أخرى لهذه التلقائية والبساطة فأنت مع أشعاره تقرأ كلاماً منساباً لا يكلفك وتشعر أن صاحبه لم يتكلفه، وهو في شعره مهموم بأن يقول كلمته بصدق وأن يعامل لغته بصدق مماثل، حتى إنك لتضعه في صفوف شعراء المعاني، بدءاً من أبي العتاهية قديماً وحسين عرب حديثا، والأخير شاعر جعل المعنى نبراساً يسير عليه، مثله مثل العواجي، حيث ترى كل شروط الشعر من صياغة ومجاز وأخيلة تحت المعنى ولا ترتفع من فوقه، في مقابل شعراء اللفظ أو الصياغة حيث تكون العناية الأسلوبية، أو ما نسميه في النقد الألسني بالأسلبة، ويفترق النقاد فرقاً كبيرة بين مفضل لهذا أو لذاك، والعبرة هنا هي أن شعر العواجي صورة صادقة لشخصيته التي تراها حين تقابله حيث ترى القصيدة صفحة مكشوفة تقدم نفسها لك بلا رتوش ولا وسائط من التحلية المتأسلبة، وكأنها ماء يسيل بين السطور. ومن هنا كانت عنايته في ديوانه الأول (المداد) حيث تعمد أن يقدمه مكتوباً بخط اليد منسوخاً على الصفحات رافضاً وسائل العصر الطباعية والتصفيفية، وكأنه شيء يتشبث بالطبيعة الأولية للأشياء قبل أن تتصنع أو تتأنق.
هو إبراهيم العواجي حاملاً الذاكرة الوطنية وصانعاً لهذه الذاكرة كمعنى شعري وكسيرة وظيفية وهو الذي أخلص للشعر كمهنة ثقافية لا ضرة لها، وللوظيفة منزلة واحدة لا ضرة لها أيضاً، وفي كليهما كتب نصه بإخلاص وبتلقائية مخلصاً بذلك للوجوهين معاً، ولم يتناقض قط فيما بين قصيدته ومنصبه، وفي كليهما تعزز عنده المعنى وأكد أحدهما الآخر، أحييه في يوم تقديره هذا، وأحيي ذاكرته التي ظلت رفيقة لكل التحولات.
وإني لأستعيد مع شاعرنا جملاً جميلة له تدل عليه وتفتح لمن أراد قراءته نقدياً باباً مشرعاً للتعرف على نصه، وهي من قصيدته (السكينة، ص 106 المداد):
للمرة الأولى
عرفت بأنني
من أجل عينيك التي
رسمت على أحداقها
مليون حور
أبحرت أبحث
في الهوى وحدي
وها أدركت
أن رموشها
كانت لإبحاري سفينة
لست أرى أن شاعرنا قد أدرك السكينة بعد عناء، ولكنني أراه كان يعيشها دوماً وقصائده في الديوان كله هي قصائد في التغني بهذه المطلوبة المتمنعة على غيره من الشعراء عادة، غير أن هذا الشاعر ظل متلبساً بها وظلت قصائده تحمل دلالاتها حتى أصبحت مفتاحاً دلالياً للنص وللشاعر، وكما هي مقولة النقد الألسني عن (الصوتيم) فهذا المقطع لعب دوراً محورياً بما أنه صوتيم الديوان ومفتاح التعرف على منظومة الشاعر الدلالية والتركيبية، وهي صيغة مزدوجة ما بين صورة النص وصورة المعنى. وكأنما سنقول إنه شاعر السكينة، وشعره خطاب وجداني في هذه الدلالة.