Culture Magazine Thursday  23/12/2010 G Issue 326
قراءات
الخميس 17 ,محرم 1432   العدد  326
 
وحي القلم لإمام البيان العربي
مصطفى صادق الرافعي (1298–1356هـ 1881–1937م)
عبدالفتاح أبومدين

-3-

ويمضي عرض الأستاذ الرافعي للجيش الإسلامي الفاتح فيقول: ولما نزل عمرو بجيشه على «بُلبيس»، جزعت مارية جزعاً شديداً، إذ كان الروم قد أرجفوا أنّ هؤلاء العرب قوم جياع، ينفضهم الجدْب على البلاد نفض الرمال على الأعين في الريح العاصف، وأنهم جراد إنساني لا يغزو إلا لبطنه، وأنهم غلاظ الأكباد كالإبل التي يمتطونها، وأن النساء عندهم كالدواب يُربطن على خسف، ثقلت مطامعهم، وأن قائدهم عمرو بن العاص كان جزاراً في الجاهلية، فما تدعه روح الجزار ولا طبيعته، وقد جاء بأربعة آلاف سالخ من أخلاط الناس وشذاذهم» الخ.

وحين أتحول إلى مشاعر وخيال مارية وما عنّ لها عبر تدافع الصور في رؤاها، حيث انتابها القلق والجزع والوسواس فأخذت تندب نفسها من خلال نظم قدم الرافعي ترجمته، حيث قالت فيه:

« جاءك أربعةُ آلاف جزّار أيتها الشاة المسكينة!

« ستذوقُ كلُّ شعرة منك ألم الذبح قبل أن تذبحي!

« جاءك أربعة آلاف خاطف أيتها العذراء المسكينة!

« ستموتين أربعة آلاف ميتةٍ قبل الموت!

قوّني يا إلهي، لأغمد في صدري سكيناً يردُّ عني الجزارين! يا إلهي! قوّ هذَه العذراء لتتزوج الموت قبل أن يتزوجها العربي..!».

هذا الجزع التصوُّري المفرط لدى «مارية» من العرب الفاتحين، لم يكن يقلق «أرمانوسة»، فنراها تضحك في وجه النادبة الحزينة المفجوعة من هؤلاء الأعراب القادمين من الجزيرة العربية، لذلك نسمعها تضحك في وجه وصيفتها وتطمئنها بقولها: أنت واهمة يا مارية.. أنسيت أن أبي قد أهدى إلى نبيهم بنت «أنصنا»، تعني مارية القبطية التي أهداها «المقوقس» إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كانت من الصعيد «الوجه القبلي» كما قال الأستاذ الرافعي.. ومضت أرمانوسة في الحديث المطمئن لمارية في وصف ما حظيت به مارية المهداة إلى نبينا عليه السلام فقالت: فكانت عنده في مملكة بعضها السماء وبعضها القلب؟ لقد أخبرني أبي أنه بعث بها لتكشف له عن حقيقة هذا الدين وحقيقة هذا النبي؛ وأنها أنفذت إليه دسيساً يُعلمه أن هؤلاء المسلمين هم العقل الجديد الذي سيضع في العالم تمييزه بين الحق والباطل، وأن نبيهم أطهر من السحابة في سمائها، وأنهم جميعاً ينبعثون من حدود دينهم وفضائله، لا من حدود أنفسهم وشهوتها، وإذا سلوا السيف سلوه بقانون، وإذا أغمدوه أغمدوه بقانون»..

« وقالت عن النساء: لأن تخاف المرأة على عفتها من أبيها، أقرب من أن تخاف عليها من أصحاب هذا النبي، فإنهم جميعاً في واجبات القلب وواجبات العقل، ويكاد الضمير الإسلامي في الرجل منهم يكون حاملاً سلاحاً يضرب صاحبه إذا همَّ بمخالفته». وقالت وقال أبي: إنهم لا يغيرون على الأمم، ولا يحاربونها حرب الملك، وإنما تلك طبيعة الحركة للشريعة الجديدة: تتقدم في الدنيا حاملةً السلاح والأخلاق، قوية في ظاهرها وباطنها، فمِن وراء أسلحتهم أخلاقهم، وبذلك تكون أسلحتهم نفسها ذات أخلاق.. وقال أبي: إن هذا الدين سيندفع بأخلاقه في العالم اندفاع العُصارة الحية في الشجرة الجرداء، طبيعةٌ تعمل في طبيعة، فليس يمضي غيرُ بعيد حتى تخْضرّ الدنيا وترميَ ظلالها، وهو بذلك فوق السياسات التي تشبه في عملها الظاهر الممفق ما يُعد كطلاء الشجرة الميتة الجرداء بلون أخضر..! شتان بين عمل وعمل، وإن كان لون يشبه لوناً.. فاستراحت «مارية» واطمأنت باطمئنان أرمانوسة، وقالت: فلا ضير علينا إذا فتحوا البلد، ولا يكون ما نَسْتَضِرُّ به؟».

قالت «أرمانوسة» : لا ضير يا «مارية» ولا يكون إلا ما نحب لأنفسنا، فالمسلمون ليسوا كهؤلاء العلوج من الروم، يفهمون متاع الدنيا بفكرة الحرص عليه، والحاجة إلى حلاله وحرامه، فهم القساة الغلاظ المستكلبون كالبهائم، ولكنهم يفهمون متاع الدنيا بفكرة الاستغناء عنه، والتمييز بين حلاله وحرامه، فهم الإنسانيون الرحماء المتعففون».

ويمتد حديث الأديب الكبير الرافعي، يضرب الأمثال عن النبي الأمي صلى الله عليه وسلم، وكيف بنى من حوله أمة اهتدت بالإسلام ووعت شرع الله، فكانت خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله.. صنع الأستاذ الرافعي «سيناريو» لقصة أنشأها كان أبطالها اليمامتان «وأبو «أرمانوسة» وعمرو بن العاص يقود الفاتحين لمصر وما وراءها من الشمال الإفريقي، وقال الكاتب من خلال بيانه الناصع يروي ما جنح إليه خياله الخصيب! حيث ساق كلاماً جميلاً خليق أن ينقل، غير أني خشيت الإطالة، فليطالعه من أراده!

قال الكاتب المجيد مصطفى صادق الرافعي: على «فسطاط» الأمير «يمامة» جاثمة تحتضن بيضها، وشاع الخبر أنه لما أمر عمرو بن العاص أن يقوّض «فسطاطه»، أصابوا «يمامة» قد باضت في أعلاه فأخبروه فقال: قد تحرّمت في جوارنا، أقروا الفسطاط حتى تطير فراخها! «فأقروه! وقال الكاتب الجذل: يمامة سعيدة، ستكون في التاريخ كهدهد سليمان، نسب الهدهد إلى سليمان، وستنسب اليمامة إلى عمرو».. وكانت هذه القفلة شبه لغز: واهاً لك يا عمرو! ما ضرّ لو عرفت اليمامة الأخرى...!

وأنا أعلم أن تلخيص القصة الأدبية التي يكتبها الرافعي أمر معجز حقاً، لأن كل سطر منها فن أدبي لا يجوز إهماله؛ وقد عبّر عن ذلك الأديب والفقيه علي الطنطاوي - رحمه الله - حين قرأ في الرسالة مقالة الرافعي «قصة زواج»؛ تلك التي رفض فيها سعيد بن المسيّب مصاهرة أمير المؤمنين عبدالملك بن مروان، وزوّج ابنته إلى طالب فقير لا يملك قوت يومه؛ فكتب الطنطاوي خطاباً إلى الرافعي بمجلة الرسالة، في العدد «69» الصادر بتاريخ 29-10-1934 قال فيه: «لقد خرجنا من المقال، وكأننا لم نعرف عبدالملك وسعيداً سيّد التابعين إلا هذه الساعة، فإذا أنت قد نقلت عبدالملك والجلال من ذلك إلى هذا، وإذا مقالة واحدة منك تغلب عبدالملك على جيوشه وأمواله وملكه، ثم تجرده منها، ثم تعرضه جسداً نحيلاً وتمنح سعيداً على فقره وتواضعه أسمى العظمة والهيبة والجلال».. ورسالة أستاذنا الطنطاوي رحمه الله كل سطر فيها جدير أن يستعاد، فقد استطاع أن يصور أثر البيان الصادق في نفوس الشبيبة المؤمنة بأوفى ما يبلغه كاتب قدير.. ولو أن الأيام مدّت في عمر الرافعي، لصوّر مواقف الرجولة في الإسلام هذا التصوير البليغ، ولكان للمكتبة العربية منه تراث يستعاد ويردد على مر السنين!

الشاعر

نشأ الرافعي شاعراً، ربما قرن اسمه بكبار الشعراء في عصره؛ وقد قرّظ دواوينه الشعرية طائفة من كبار الشعراء، من أمثال البارودي وحافظ إبراهيم وعبدالمحسن الكاظمي؛ ولكنه وجد أخيراً في الأدب النثري اتساعاً فسيحاً لآفاق رحيبة يضيق عنها الشعر، ففضّل أن يكون شاعراً في دولة «الشعر المنثور»، وهو ما نلحظه في كثير من صفحات «وحي القلم»، لأن روح الشاعر ظهرت واضحة جليّة في أكثر مقالاته.. ولا أدري لماذا نذكر جبران خليل جبران وأمين الريحاني من رواد الشعر المنثور ولا نذكر الرافعي، وهو لا يقل مكانة عنهما في هذا الميدان؟

فلسفة الطائشة «2»

عبر تحاور؛ «قال صاحب الطائشة: ذكرت لها «قاسم أمين» وقلت: إنها خير تلاميذه وتلميذاته.. حتى لكأنها تجربة ثلاثين سنة لآرائه في تحرير المرأة.. فقالت: إنما كان قاسم تلميذ المرأة الأوربية، وهذه المرأة بأعيننا؛ فما حاجتنا نحن إلى تلميذها؟ وقالت: وأبلغ من يرد على قاسم اليوم هي أستاذته التي شبّت بها أطوار الحياة بعده، فقد أثبت قاسم أنه انحصر في عهد بعينه ولم يُتبع الأيام نظره، ولم يستقرئ أطوار المدنية، فلم يقدّر أن هذا الزمن المتمدن سيتقدم في رذائله بحكم الطبيعة، أسرع وأقوى مما تقدم في فضائله، وأن العلم لا يستطيع إلا أن يخدم الجهتين بقوة واحدة، فأقواهما بالطبيعة أقواهما بالعلم، وكأن الرجل كان يظن أنه ليس تحت الأرض زلزال ولا تحت الحياة مثلها»..

وقبل المضي في الحديث الذي اخترت من تقليب صفحات «وحي القلم» عبر المجلد الأول، وجدت في ص» 200» عنواناً: «دموع من رسائل الطائشة»، وفي هذا العنوان هامش يقول: «نحن لم نخترع الطائشة، فهي فتاة متعلمة أديبة، قد أحبت رجلاً متزوجاً فطاش الحب طيش الطفل إذا منع ما يطمع فيه؛ وتركها الحب عليلة لما بها، ثم قضت وكان بعض صواحبها يعذلنها ويرمينها بالتهمة، فكانت تقول: إنها منهن كالغائب المحكوم عليه، لا هو يملك دفاع الذنب، ولا الحاكم عليه يملك إثبات الذنب!».. ونجد أن لهذه الطائشة رسائل إلى صاحبها: نقرأ في ظاهرها على أنها رسائل حب، قد كتبت في الفنون التي يترسل بها العشاق؛ ولكن وراء كلامها كلاماً آخر نقرأ فيه أنه تاريخ نفس ملتاعة، لا تزال شعلة النار فيها تتنمّى وترتفع، وقد فدحتها بظلمها الحياة، إذ حصرتها في فن واحد لا يتغيّر، وأوقعتها تحت شرط واحد لا يتحقق، وصرّفتها بفكرة واحدة لا تزال تخيب»..

إن حديث الطائشة شغل ثلاث عشرة صفحة من المجلد الأول من وحي القلم، وما كنت لأخوض في هذا الموضوع ولا أعنى به، لولا أن الأستاذ الرافعي رحمه الله ساق موضوع الطائشة مع الحديث عن قاسم أمين ودعاوى « تحرير المرأة»!

* ألقي هذا الحديث في «خميسية» حمد الجاسر 26-12-1431هـ الموافق 2-12-2010م جدة
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة