Culture Magazine Thursday  21/10/2010 G Issue 320
أفق
الخميس 13 ,ذو القعدة 1431   العدد  320
 
قصة قصيرة
«الجنون»
أماني السليمي

كانت ترقص في بيت غُلب عليه الطراز الأوروبي الرائع، في الأسفل ترقص رقصة دقيقة منتظمة، ذات الرقصة لا تتغير لا تزيد، ولا تنقص، تتغنج إلى اليمين تارة وإلى الشمال تارة أخرى، ترقص دون موسيقى ولا تصفيق، ولا صفير، لا أنكر رقتها وروعتها رغم عصيانها وجبروتها، وتمردها وإصرارها على الحياة، تعيش راقصة حتى الموت، حاولت منعها مراراً وتكراراً، لكنها تكتفي بنظرة ازدراء، لا تزيدني إلا غضباً، وتزيدُها شموخاً، فتستمر بعملها الراقص، اهدئي قليلاً أرجوكِ توقفي، فأنا سئمت النظر إليك، فترقص غير مبالية بحديثي ولا إلحاحي.

سئمت رقصاً الموحد المتوازي دقيق الخطوات، وقررت الذهاب إلى الأعلى لأنظر إلى أخواتها الثلاث، ولم يكنّ أقل صخباً ونشاطاً منها، إحداهن تمشي بحركة دائرية غاضبة، لا يُسمع سوى طقطقة حذائِها العالي، هي الطويلة بين أختيها، ولكن الراقصة هي الأكثر طولاً بل هي العملاقة المتعجرفة، وتمشي بحركة دائرية منتظمة لتصل وتسحب شقيقتها بقوة، وبصمت، ومن ثم تتخلى عنها لتكمل مسيرتها! إلى أي حد وصل هذا الظلم ؟ تجر شقيقتها لتتخلى عنها دون أن تنبس ببنت شفة! هل هي السيطرة أم الظلم أم إثبات الذات؟

ها هي تعود من جديد لتفعل تلك الفعلة الشنيعة تسحب شقيقتها النائمة بعنف دون همس، فتتركها وتكمل مسيرتها بنفس الشموخ والكبرياء ودقة الخطوات الواثقة والهادئة رغم استعجالها، لم ألحظ أي حركة صادرة من أختهن الثالثة! كانت هادئة ربما نائمة أو ميتة.

قطع تفكّري الضجيج الصادر من طرق حذاءَ تلك النشِطةّ والطويلة ذات الدوران الدائم، كدوران الأرض حول نفسها، وبنفس الدقة والهدوء والحكمة، ولكن الاختلاف الوحيد بينها وبين الكرة الأرضية، أنها تتحرك بشكل أسرع.

ألقيتُ نظرة إلى الأسفل لأجد الراقصة ترقص بنفس الدقة والرتابة والحركة التي اعتادت عيناي رؤيتها، وسئم ذهني تكرارها، وانزعجت أذناي من سمع طرقها! قلت بصوت مبحوح منهك اندماجا، وتعباً، وتشتتاً :- مهلاً توقفوا..أستحلفكم بالله، توقفوا وكان الصمت ثم الطقطقة هو الجواب! شعور الجنون قد انتابني، فلم أعد كما كنت أسيطر على ذاتي..ازدادت الراقصة رقصاً، وتمردت الأخرى بحركاتها الدائرية حركةّ وسحباً لأُختيها معاً، ومن ثم بدأت تطلق أجراسها لتصرخ وبدأت أصرخ معها: (تباً لكِ، اصمتي يا للعجب! ما زالت مستمرة بحركتها لا تكل ولا تمل..- تباً لكم توقفوا حالاً ولا يزيد غضبي إلا تمرداً وعصياناً ورقصاً فحركة!

بدأ الصُداع يتسيّد رأسي صخباً بلا صخب وغضباً دون سبب!

لم أنفك عن رؤيتهم، ولم أفكر بالفرار إلا عندما أتخلص منهم.. أشعر بجنون التحدي، ومن ثم الانتقام.. لا أعلم ما السبب؟

ربما التركيز والغموض والأكيد أنه محاكاة الفراغ رغم الانشغال والاشتغال.

فوضى عارمة، فضجيج، ورقص، وحركة منتظمة أثارت غضبي، التقطت قنينة العطر في الجانب الأيمن فوق المنضدة، نشلته فألقيته عليهم بقسوة، وسقطت الراقصة صريعة لا تتحرك، وتلك التي تمشي بدوران ثابت توقفت، فخرّت صريعة بجانب أختيها، وكأنهن قد اتفقتا على العيش والموت معاً، وغطاء منزلهم الفاخر بكل بساطة قد تحطم، و قطع الزجاج متهشمة من حولي، وشعور الحزن قد انتابني عند تبخر وانتشار رائحة العطر النفاذة والقاتلة، الغربة قد عصفت قلبي عندما شعرتُ بالوحدة، كانوا هم الملاذ الوحيد لحياتي وتسليتي في أوقات فراغي كنت أسابقهم، فيسبقوني، وأحاكيهم فيسمعوني، وأصب عليهم جام غضبي فيهدئوني بصمتهم، ولكن اليوم تغير كل شيء نعم تغير! عندما قتلت الوقت، وتوقف الساعة.

/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة