Culture Magazine Thursday  21/01/2010 G Issue 295
فضاءات
الخميس 6 ,صفر 1431   العدد  295
 
فيزياء الاختلاط
محمد عبدالله الهويمل *

إذا اتفقنا في النتائج واختلفنا في تصنيف هذه النتائج فهذا مرده حتماً لاختلافنا في تفسير طبيعة قضيتنا المحتدمة التي نحن بصددها وهذا ما يصدق بالبداهة على موضوعاتنا الحيوية المستجدة لاسيما موضوع الاختلاط بوصفه مادة استقطاب وإعادة إنتاج لتفسير القناعة. والاختلاف القائم بين المحافظين والليبراليين في هذا الشأن ليس في النتائج بل في تصنيفها لأنهما اختلفا في الطبيعة الحيوية للاختلاط تبعاً لاختلافهما في التحديد هذا الأخلاقي الذي سبب الصداع للفلاسفة والحكماء وهاهو يطرح ذاته على مستوى أكثر تسطيحاً وفي يوميات ليست في خانة المهمل لدى المفكرين والمحللين الذين يمدون للحجر ظل جبل ويتدخلون إبداعياً فيما لا يعنيهم كما يقول سارتر.

ينهض الاختلاط كمادة اختلاف وعندما أصفه بمادة فأعمد إلى كشف الجانب الفيزيائي لهذه المادة متسامياً على شتى الجدليات ذات الصلة بالصواب والخطأ التقليدين والعيب والتصويبات المتصلة بالنص المقدس الذي لا يتعامل معه الليبراليون كما الإسلاميون، فالليبراليون يتعاملون مع النص تأويلاً وسبراً لبواطنه أو تهميشاً تحت شعار تغير المعطيات العصرية ليحل الذوق مكان الشريعة كما يشير الدكتور المسيري الذي من شأنه أن يخدش مقام الهوية والخصوصية لأن الإيديولوجيا الخاصة مرتبطة عضوياً، بل وتكاملياً بهما ومع ازدهار شريعة الذوق تنقاد الهوية إلى سلطة الذوق وتكون جندياً له. والهوية عضو نافذ في منظومة الأخلاق بل ومحوري وعليه فإن انقيادها له من شأنه أن يبقي بقية عناصر المنظومة الأخلاقية في حالة حرج لأن سبب وجودها حدث له تبدل وأعني (الهوية) فيحدث ضعف مباشر لأدوات الهوية كالنخوة والرجولة والبطولة والتضحية والكرامة والشرف وكل هذا الطابور منجذب للقيمة العليا وهي العرض التي تستمد هذه القيم وجودها بل وتفوقها في قدرتها على حمايته ودونه تنتفي كل ممكنات المنافسة في مجال الهوية التي تنقاد عفواً للذوق الذي يصوغه الدين أو اللادين وكلاهما ذو كاريزما طاغية في استعباد الذوق وتجنيده وفي هذا المساق تبرز حالة (الاختلاط) بوصفها دائرة نشطة وحرجة لهذه التجاذبات، فالهوية التي تتمحور عليها قيم تتكامل وظيفياً تطرح نفسها في حالة (الاختلاط) ضمن ثنائية حادة (أكون كل شيء أو لا أكون شيئاً).

الطرفان المحافظ والليبرالي مختلفان ليس في طبيعة الاختلاط بل في طبيعة الإنسان المختلط ورغم تعاملهما السطحي الاختزالي إزاء أسرار الطبيعة البشرية إلا أنهما حسما هذه الطبيعة وفق تصنيف النتائج كما أسلفنا لا وفق دراسات فاحصة متجردة، فالليبرالي يعتبر الاختلاط موافق للطبيعة البشرية جزافاً في حين يقرر المحافظ العكس كما يذكر الشيخ الشعراوي بعدم طبيعية الاختلاط. وتغافل الطرفان عن ما يقول به العلم الحديث فالمحافظ اكتفى بموروثه وتجاهل الليبرالي الإحصاءات والحسم العلمي والبحثي لأنها ربما تحرج موقفه لا سيما أنه لا يعول على هذا الحسم العلمي لأنه جاف وغير مُجدٍ في تصويبه لتصنيف النتائج.

فإذا اتجهت دراسة علمية بحتة ودقيقة إلى مفاسد أخلاقية للاختلاط فإن قطاع من الليبراليين سيضعون علامة استفهام عملاقة أمام (مفاسد أخلاقية) تنتهي إلى أن للعلم أن يقول ما يشاء وللأخلاق الجديدة أن تقول من تشاء... أي ماذا تعني المفاسد ... هل هي الاتصال الجنسي غير المشروع؟ ربما تكون مثار تندر وسخرية لدى بعض الليبراليين لا سيما أن بعضهم لا يعتبر خطاً ولا عيباً ولا محرماً إذا كان بتراضي الطرفين وهنا يصعد الحرام المدني ليحسم الموقف في الطبيعة البشرية وماهية الاختلاط بل في التصنيف المدني للنتائج التي كشفها البحث العلمي الذي لم يمنحه الذوق الجديد الحق في تصنيفها، فالعلم يصف ولا يصنف لأنه لا يفكر كما يقول الفيلسوف مارتن هايدغر.

وبعيداً عن هذه الحلبة وجلبتها يتعين علينا أن نرتهن للعلمي المستند للتجربة والملاحظة بوصفه واقعاً مباشراً نستقبله بحواسنا المجردة وسننتهي إلى أن الاختلاط هو حالة من النشاط الجمعي يلتئم قرناء أو نظراء أو أضداد وأياً كان الأمر فالحيوية والتفاعل هو طبيعة هذا الفعل إذ لا مكان لما هو غير حيوي وعليه، فالحيوية تمتد إلى بسط ثقافة تعاونية لا تكتفي بالتكامل بل بإبراز ضروب التفاني ومواهب الإنجاز التي يلحظها كل عضو في الوسط المختلط على الآخر مما يفرز بروز تراتيبه هرمية تنتظم ذوي المواهب حسب قدرتهم في إبرازها والمحافظة عليها وتنتهي إلى حسم التفوق على المستوى الشخصي.. إذاً الوسط الاختلاطي هو وسط عمل. وكشف المواهب من ضرورات المنافسة وشأنه شأن الوسط العملي غير المختلط. ومن المحسوم به وعبر التجربة الإنسانية أن فريق العمل الواحد ينشط حتى على صعيد المشاعر في سبيل إضفاء مناخ حميمي يسهل عملية الإنتاج من خلال تكريس قيم التضحية والإخاء والطهورية بتفسيريها الديني والليبرالي مما يزيد من مقبولية طرفي الاختلا ط بعضها لبعض وهذا ما يطرحه بقوة وعمق واقع الاختلاط المنظم على خلاف الاختلاط العشوائي الذي لا يتمتع بتجربة قبلية تضفي قناعات مضاعفة لقبول الآخر وبذل الأصعب في سبيل المحافظة عليه. ففي الاختلاط العشوائي كالسوق مثلاً تبوء أكثر محاولات التودد والملاطفة إلى نكسة فادحة وتنتهي إلى الفشل والإهانة حتى لو تم القبول فسيبقى أحد الطرفين متوجس من الآخر بسبب طريقتهما في تأسيس هذه العلاقة التي اكتسباها في مكان مجاني وزمان مجاني وضربة حظ أشبه بالقرعة إذ الفوضى هي التعبير العشوائي للحيوية وتنتهي هذه العلاقات إلى فشل أو فضيحة. أما الاختلاط المنظم فإنه يبني علاقات على احترام المكان والزمان ولكن هذا الاحترام لا يعني بالضرورة عدم تبادل مشاعر حيوية منظمة تتعاظم بفعل المناخات الحيوية المنظمة وتضيق دوائرها بفعل كثافة الحالة الثنائية إلى علاقة لا تنتظم سوى طرفين تعرف كل منهما على مواهب الآخر وبلغ الغاية في القناعة به إذ إن الشكل والجمال هما المحرض الأول والأخير للتواصل وتأسيس علاقة في الاختلاط العشوائي مع غياب بقية العوامل التي تعزز من التعلق كجمال الصوت وعذوبة المنطق والثقافة والذكاء وتماسك الشخصية وغزارة الأفكار والمنجزات العلمية وفيض الرجولة أوالأنوثة فضلاً عن الأخلاق الطهورية الحقيقية أو المصطعنة ولا يتوفر هذا إلا في اختلاط منظم تتحقق فيه أمتن العلاقات وأكثرها حدة وتنظيماً وفي هذه التجاذبات العاطفية المتوترة يحدث التباس الديني بالذوق الجديد وتتشكل دوائر تدمج الممكنات والممتنعات من الطرفين في هوامش ضيقة يحدث تلاقح الديني بالذوقي في غياب الرقيب التربوي الأول لتتأسس حالة جديدة من التلقي والتأويل تتعامل مع أصعدة شتى كالحب والجنس والصداقة والزمالة إذ التدافعات لا زالت محتدة بين الذوقي والديني في الهامش الأخلاقي الجديد تديرها ثقافة اللذة المابعد حداثة وإكسيرها الذي حول الحجر إلى ألماس عند النظر ولا يلبث أن يعود حجراً عن اللمس.. هذا هو الاختلاط المنظم وهذه هي فيزياؤه والاستفادة من الدراسات العلمية الحديثة تكشف أكثر هذه الفيزياء وتتجه بنا إلى فهم أكبر لطبيعة الاختلاط الذي اختلفنا عليها فهو إما سلبي أو إيجابي ولا يقول العلم بغير هذا وإن كانت المقولات المشهورة الغربية والدراسات الحديثة تتجه إلى أن فيزياء الاختلاط تفرز ما هو سلبي فعلينا التعامل معها بجدية وعدم التجاهل لا سيما الموقف الليبرالي إزاء سلبياته شبه المتفق عليها غريباً خصوصاً ما يمس زيادة العنف وضعف الإنتاج في دوائر العمل والدراسة المختلطة.

Hm32@hotmail.com الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة