Culture Magazine Thursday  14/01/2010 G Issue 294
سرد
الخميس 28 ,محرم 1431   العدد  294
 
قصتان قصيرتان:
محمد المزيني

«1» ذاكرة

كان ذلك المساء الشتائي غارقا بتجاعيد المكان الذي أطبقت عليه السماء بفيض من مياه كانت مؤجلة سنة كاملة، قرية الحمادة التي تبعد عن العاصمة ستين كيلا لا تبلغها سيارات الشحن الصغيرة إلا بشق الأنفس، تدون ميلاد السماء، وهي تصوغ تاريخ الوجوه وترسم خطوط الأقدار على أديم أرضها الخصبة، رقية ابنة عمشاءِ الحيد لا تزال ضامرة الحشا لم يطوق جيدها غلالة بعد؛ اثنتا عشرة سنة العمر الكافي لتتحمل جزءا من أعباء البيت الكبير المشرع على السماء كأيد تمتد منفتحة بالدعاء، ألقت عليها أمها أعباء سقي النخلات الثلاث وحياض العلف، وتنظيف زريبة البهائم منذ أن تنهض من نومها على أذان الفجر الأول وحتى مغيب الشمس، وهي منكبة بانهماك تام لتأدية مسؤولياتها اليومية، لا يقطع وتيرتها سوى غيابها ساعتين من نهار لحضور الدرس اليومي على يد منيرة التي كانت تحفظها القرآن برفقة عدد من صويحباتها، ذات مساء وبينما كانت تعلف أم البركة (بقرتهم الحلوب) أحست بحركة تخشخش في جيبها الجانبي، تلمسته بيدها فصعد إلى مخيلتها أنه صرصار تسلل إليها وهي تعلف البقرة، تقريبا تأكدت أنه الصرصار الملعون الذي يقشعر بدنها لمجرد رؤيته، ففزعت تهرول صارخة وهي تكمشه من خلف ثوبها بأطراف أناملها (صارور.. صارور.. صارور)، ركضت بخطوات واسعة، خرجت إلى براح الشارع فاقدة الصواب وفمها يفور بالصراخ الذي ملأ فجاج الأزقة بالرعب، وأمها تلاحقها لاهثة رآهما زويد الشاب الفتي الذي لم يكن يبرح السبعة عشر ربيعا فسارع في إثر الفتاة الجزعة بنشاط وعزم حتى أدركها, أمسك بها من طرف ثوبها مخمنا إصابتها بمس من جنون، شد وثاقها من طرف ثوبها حتى ثبتها إلى الأرض، فما أن وصلت أمها حتى نزعت يدها عن جيبها مولجة أصابعها داخله لاصطياد الصرصار اللعين، فوقعت على نواة تمرة التقطتها سريعا فأخرجتها تهزها أما عينا ابنتها وهي تضحك ساخرة منها، تنحى زويد قليلا، مرتكنا على شاحنته العائد بها توا من العاصمة، تفككت حبال وجهه عاودته سكينته مع ابتسامة افترشت محياه, وعيناه تقطرهما لا تتزحزحان عن المدى الذي ابتلعهما.ويداه لا تزلان رطبتين برائحتها

«2» شقي

احترقت الخامسة بين أصابعي والورق الأبيض لا يزال كرغوة لم يلوثها جسد، هذا هو؛ ما أبحث عنه بالضبط الجسد، متى يخرج الجسد من الجسد؟ أين جسد كلماتي؟ لماذا لا تنحني ريشة قلمي وتسجد خاضعة لكل التأوهات التي أحرقت قفص صدري؟ فأعمد كعادتي لتسخينها بحرارة النيكوتين الملعون الذي سحل رئتي وجعلني مستفزاً بسعال أمسى جزءًا من مكوناتي الشخصية إضافة للنظارة الثقيلة التي علَّمت وجنتي بخطوط سوداء، والفكرة القديمة الناشبة في رأسي متعسرة الولادة، هل لأنني خائف ومتردد بمعنى مختصر (جبان) أم لأنني لم أبلغ الحلم الكتابي للبوح أم لأن الأربعين سنة المنصرمة شيأتني داخل هذه المدينة المكدسة بالكذب والنفاق والتزوير وأحالتني الى ما يشبه جهاز هضمي نتن، متقرح ستدكه العلل يوما ما وينفق كما تنفق الشياه الضالة في صحراء قاحلة؟!! منذ أن ابتعت هذه الأوراق لتدوين تاريخ معاناتي وضياعي وتشردي وأنا أمارس طقوس التسكع الجبري أحرق سجائر وأقلب بصري في الفراغ المتجحم والأوراق تنتفض من برودة التكييف، وأنا أنتفض عاجزا؛ فما دونته على ظهر غلاف كتاب قديم التالي: «هنا الصيرورة تتوقف، قبل مجيئي كنت أقلب صفحات الأيام وبعد حلولي عاملا بفيزا مؤقتة تجدد كل سنة صارت الأيام تقلبني كلص لا يقهر. أصبحت فيما بعد أحصي أنفاسي مع كل قرش أدسه في جيبي... مع كل قطرة عرق تنزف من جبيني. اليوم صرت ابنا لهذه المدينة بالتبني؛ علمتني دروسها وعباداتها وخرافتها ونبوءاتها. فمن أهم دروسها ألا أعبأ بذاتي. أن أتعامل مع الأشياء بحركات مهرج دون الالتفات إلى ملاحقة أعين رقيبة متلصصة. صيرتني لقيطها الموغل بالشجن المراوغ. احترق دمي تائها بين طرقاتها الملتوية، الوعرة، سم.. حاضر.. على أمرك.. مخدومك.. ممنونك.. ابشر طال عمرك.. ولا يهمك., تم».

لا.. لا ما هذا الهراء اكتشفت الآن أني لا أصلح حتى للكتابة .. وهذه الوراق لم يعد لها حاجة ربما أستفيد منها في لف فطائر الزعتر صباحا.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة