مع أن مفهوم الفنون التشكيلية غير واضح المعالم عند الكثير من العامة والقليل من المثقفين واكتفائهم بأنها رسم لوحة أو تشكيل قطعة نحت وأن هذا المفهوم المحدد والقاصر لا يعطي الحقيقة الكاملة عن هذا الفن، ومعنى كلمة (تشكيل) قبل كلمة (فن) التي تطلق على مختلف الأعمال المتقنة أياً كانت، ومنها أسلوب الحديث والتعامل والمعاملة وصولا إلى ما يتعلق بحياتنا اليومية ومنها قيادة السيارة أو الطبخ و(إتيكيت) الاستقبال وما إلى ذلك، فلكل منها فنانون ولكل منها فنونها والقادرين على التعامل بها وإبرازها والاتصاف بها، وإذا عدنا لموضوعنا اليوم وهو الفن التشكيلي وفروعه وفنونه وفنانيه، أشير إلى أن كلمة فنون تشكيلية تعني الكثير ومنها إعادة صياغة الشكل المرئي المنعكس في وجدان وذاكرة الفنان لما يراه على الواقع بمفهوم الفنان وثقافته وخبراته ليقدمه للجمهور أو المتلقي المثقف أو المتخصص بشكل جديد يحمل الفكرة ويرتبط بالواقع ويحرك المشاعر ويثير الإعجاب، لكنه لا يماثل ما كان عليه قبل ذلك وهذا عائد إلى قدرات الفنان في أن يجمع بين هذا وذاك بين ما يراد التعبير عنه وبين ما سيكون عليه.
وقد يقال إن مسمى الفنون التشكيلة يأتي لاحقا بعد التسمية الأولى التي أعلنت في فرنسا وتحدد فيها اسم (الفنون الجميلة) وهو المصطلح الذي ظهر في عام 1767 وأصله الفرنسي beaux arts وتمت ترجمته حرفيا للغات العالم. ويتم الإشارة بهذا المصطلح إلى الفنون التي ترتبط بالجمال والحس المرهف اللازم لتذوقها.
عند بدء استخدامه كان يستخدم في وصف عدد محدود من الفنون المرئية كالنحت والطباعة وبشكل أساسي الرسم.
قبل تعميمها لتشمل كل الفنون الإنسانية المسرحية والموسيقية وغيرها إضافة إلى الفنون التشكيلية بمسماها المعاصر والتي تشمل النحت والرسم والتصوير الزيتي وبقية سبل التعبير فيها ووسائطها التي سنتطرق لها في هذا الأسبوع.
تعددت الإبداعات والفن واحد
ما ذكرناه آنفا في مجال الفنون التشكيلية هو موضوعنا اليوم وهي فروع هذا الفن وتقسيماته التي تتفرع أيضا من خلال ابتكارات الفنانين وإبداعاتهم وابتداعهم إلا أنها تعود إلى الأصل وإلى المسمى (فن تشكيلي) ومن هذه الفروع التصوير الزيتي والتصوير المائي والرسم والجرافيك (التخطيط والحفر والطباعة) والنحت والتشكيل بالحديد وتكوين العمل بالوسائط، هذه السبل والمسميات لفروع الفن التشكيلي تتشكل حسب قدرات وإمكانات الفنان، حيث يصبح له أسلوبا معروفا يمارسه من خلاله ويقدم أفكاره بمختلف تلك الأدوات والسبل، وإذا عدنا للتاريخ التشكيلي لوجدنا أن غالبية الفنانين المعاصرين والذين سجلوا حضورهم ما بعد عصر النهضة قد تعاملوا مع مختلف تلك السبل عكس ما كان يعرف في فترات سابقة من تخصص بعض الفنانين في مجال واحد، ولهذا قدم لنا مختلف الفنانين أعمالا في مختلف تلك السبل ابتداء من التخطيط الأول للعمل (الاسكتش) مرورا بالنحت وتشكيل الخامات ومن هؤلاء، الفنان بيكاسو والفنان سلفادور دالي وغيرهم.
الفنان الشامل
وقد يرى البعض أن في تنقل الفنان من خامة إلى أخرى في إنجاز عمله ما يعيب مع أن مثل هذا التغيير والتبديل دليل على قدراته وحجم الإمكانات التي يمتلكها مثل ما نراه في كثير من الموسيقيين الذين يعزفون على العديد من الآلات مع أنهم اشتهروا في واحدة منها، فالفنان القادر على العمل بالألوان المائية والزيتية والنحت متمكن من القواسم المشتركة فيها، ففي تشكيل اللوحة الزيتية والتعامل مع الكتلة التي يشكلها الخط والفراغ في اللوحة كما هو التعامل مع كتلة الحجر أو الخشب ومع الفضاء الرحب المفتوح وكذلك التعامل مع الألوان الزيتية رغم كثافتها وما عرف عنها أنها أكثر قتامة من الألوان المائية، إلا أن في قدرات الفنان التعامل معها بالحس الشفاف المرهف في المائية، والعكس أيضا عند الرسم بالألوان المائية ما يجعل الفنان أكثر حرية وانطلاقا نحو البحث عن الفكرة والاطمئنان للأدوات وسبل التنفيذ.
مبدعون لا يجدون الفرص
ذلك التلميح الموجز إلى حد الإشارة كشفنا من خلاله بعض الصفات لكل إبداع مدخل للحديث عن مبدعين لم يجدوا لإبداعهم مكاناً في عالم المعارض المحلية أو المسابقات وإن وجد فسيكون في آخر القائمة وقد لا يمنح حقه من الجوائز أو الاهتمام في إشراكه في المعارض الخارجية ومنها فنون الرسم والتصوير المائي أو الزيت الجاف (الباستيل)، ولكل منهم صفاته ومواصفاته واهتمام به، فالرسم نعني به كل عمل أنجز بالأقلام أو حدد بخط مهما أضيف إليه ألوان كالأعمال المنفذة بالأقلام الرصاص أو المرسومة بأقلام الرصاص أو الأقلام الملونة مضاف إليها ألوان أخرى، وغالبيتها يتم تنفيذها على الورق والبعض عل قماش الرسم وهذه أمور متروكة للفنان في اختيار خامته التي ينفذ عليها لوحته في الرسم، أما التصوير المائي وهي الصفة التي تطلق على الإبداعيين الزيتي والمائي في حال تنفيذهم بالأسس التي تستحق أن توصف بالتصوير وهو تشكيل العمل من خلال اللون دون خطوط أو تحديد مسبق وإنما يقوم الفنان بوضع اللون جوار الآخر بتقنيات دقيقة لا يمكن أن ينجزها إلا متمكن وعالم بأسرارها، ولنا من الأمثلة ما قدمه الفنان الشاب محمد السيهاتي من أعمال تصوير مائي في معارضه الأخيرة وحقق فيها إنجازا رائعا لا يقل عن أي أعمال لفنانين عالميين اتبع فيها مدرسة إنجليزية مشهورة في هذا الجانب من التقنية. أما في مجال الرسم بالأقلام فهناك تجارب سابقة حققت جوائز في معارض الرئاسة ولم نعد نرى لأصحابها جديدا مع أنها كانت نقلة جيدة وتنوع للساحة، منها أعمال الفنان منصور فلاج أو ما نشاهده من إبداعات الرسم بالألوان الزيتية الجاف (الباستيل) للرائد التشكيلي في هذا المجال الفنان محمد سيام.
الرسم والتصوير المائي والزيتي
وبما أننا تطرقنا لهذه الأدوات أو السبل فيمكن أن نشير إلى أن هناك فرق بين كل منهم، فالرسم بالأقلام الرصاص يحتاج للقدرات المتأنية والتمكن من تدرج الظل والنور وقبل ذلك تكوين الشكل ووضعه في مكانه المناسب ضمن بناء اللوحة، ويعتبر الرسم بالأقلام الرصاص أو الفحم أو أي من أدوات الرسم والتخطيط من السبل التي تكشف قدرات الفنان وهو القاعدة الأساسية للفنان المتمكن باستثناء المبدعين ممن لا يرون في البدء بهذه الأدوات أهمية في تنفيذ أعمالهم كونهم تجاوزوها إلى ما بعد التخطيط ووصولهم للتنفيذ المباشر باللون. لكن هذا لا يعني إغفال مثل هذه الأدوات والطرق والإبداع فيها فلها مكانتها العالمية.
أما التصوير المائي فيعتمد على سرعة التنفيذ ورهافة الحس اللوني وشفافيته مع أن هناك من يتعامل مع هذه الألوان بروح وكثافة الألوان الزيتية كما تتمتع الألوان المائية بأنها سهلة النقل والتنفيذ والجفاف مما يجعل الفنانين فيها يحملون أوراقهم وألوانهم في كل مكان لكنها صعبة المراس، يقابلها الألوان الزيتية التي تحتاج إلى وقت طويل للجفاف مما سهل التعامل معها عند إعادة أو تعديل الشكل كما أن الإمكانية فيها برسم مساحات كبيرة جعلتها أكثر تداولا بين الفنانين استجابة للعرض والطلب وعند تنفيذ أعمال بأحجام كبيرة.
هذه الإبداعات ومعارض وزارة الثقافة
مررنا ببعض ما يتعلق بهذه المجالات الهامة في الساحة والتي كما أشرنا في العنوان السابق إلى أن المبدعين فيها لا يجدون الفرص للحضور وإثبات قدراتهم في كل منها وهذا مطلب هام نقدمه للمسؤولين عن المعارض وفي مقدمتهم وزارة الثقافة والإعلام ممثلة في وكالتها للشؤون الثقافية التي تعنى بالمعارض الداخلية أو وكالة الوزارة لعلاقات الثقافة الدولية، فلكل منهم دور ومهام فالمبدعين بالرسم أو التصوير المائي أو الباستيل أكثر الفنانين فقداً للفرص التي تتاح للوحة الزيتية في المعارض المحلية والمعارض الدولية التي تشارك بها الوزارة في المناسبات الثقافية معتذرين كما علمت ومبررين هذا الاعتذار بأن تلك الأعمال تحتاج إلى اهتمام أكبر عند الحفظ أو النقل بسبب استخدام الزجاج في تأطيرها وإخراجها للعرض.
وإذا كان مثل هذا العذر والتبرير غير منطقيين فإننا قبلناهما على مضض ونطالب أن تقام معارض ومسابقات لهذه التخصصات أو سبل التعبير والإبداع في المعارض المحلية.
تغيير للنمطية وكسب للجمهور
أجزم أن في مثل هذا التنوع في المعارض وفتح الفرص لكل الإبداعات وتخصيص معارض لكل منها عل حده سيتيح الفرصة لكثير من الفنانين وتغيير لنمطية أصبحت مملة في المعارض المعتادة التي لم تتجاوز اللوحة الزيتية وأن تجاوزه مفهومها العام فهو فيما يشاهد من وسائط أو أساليب أغلبها مقلد ومكرر.
monif@hotmail.com