للوهلة الأولى تملكتني الحيرة والضجر.. وأنا اقرأ العنوان بفضول ودهشة باحثاً عن مدخل ألج منه إلى بوابة غيماته الثلاث التي عددها كماً وعدداً.. عدت إلى الذاكرة تطلعت بشغف إلى السماء بحثاً عن غيمات ثلاث شاردة لم أجد.. مرة كانت سماء الرياض مغطاة بعشرات المزن التي ترعد وتبرق وتمطر. ومرة ثانية كان الأفق تحجبه عن الأنظار كتلة من الغبار لا حدود لها.. ومرة قطع صغيرة من الغيوم تتلاحق بأعداد مهولة.. ومرة رابعة كان الجو صحوا يزينه وهج الشمس ونهارا وإشراقة البدر وبريق النجوم ليلا.. حسمت الأمر بقرار أن لا مداخلة.. أن أدخل إلى الديوان نفسه.. وأن أدع الفرصة للحديث عن غيماته لحظة الوصول إليها.. ووجدت ضالتي.. عناوين كبيرة ثلاثة تحت مظلتها عدة عناوين من غيمته الأولى مقطوعة الشميم حيث يقول:
بين البلابل ألفة وتناغم
والشام غرد سربها المتلاحم
لِمَ لا يُغنّ السرب في شام الهوى
حمد وأحمد في دمشق وجاكم
في حمص ديك الجن غادر قبره
وأتى يطوف على الربى ويزاحم
ومعرة النعمان فر حكيمها
من محبسيه وجاءنا يتلازم
على هذا المنوال استعرض مشاهد وشواهد من الشقيقة سوريا.. وتاريخها العربي الحافل بالشعراء والأمجاد.. وينهي خطابه الشعري
يا شام أنت صديقتي وقصديتي
كالصبح لاتبدو عليك طلاسم
يا شام حبك قد طغى بمحاجري
واذا طغى حبي فلست أقادم
ومن أفياء الفيحاء يسكنه سؤال الوجد.. بل أكثر من سؤال:
ليلى تناشدني أن أعزف الوترا
وفي دروب الهوبى أن أنثر الدررا
ليلى أنا شاعر لكنني كلف
بغير شعري الذي قد جف وانكسرا
كان الشباب وكانت نار أسئلتي
مشبوبة وخيالي يعشق السفرا
رسالة وجدانية شاعرية طويلة لا تخلو من حسرة:
أواه من زمن نأوي لغابته
ولا نصادف في رمضائه شجرا
هذا سؤالك والخمسون تائهة
كالنجم - في أفق الظلماء - قد ظهرا
ليلى أعيدي إلى ليلي كواكبه
واشعلي من شموعي كي أرى الحفرا
ألقي عليّ سؤالا تلو أسئلة
فإنني حجر لا يشبه الحجرا!
ولأن الربيع لا يعشق الخريف انتهت الأسئلة دون جواب.
ففجري لغة العشق التي عجزت
ريح الكهولة أن تمحو لها صورا
نلج إلى بوابة غيمته الثانية.. تحت لافتة المستحيل:
كل شيء محتمل ما عدا أن تفقد الأضلاع
صوت النبض.. صوت الأرض في الدرب الطويل
كل شيء محتمل ما عدا أن تفقد الأغصان أصوات الهديل
كل شيء محتمل ما عدا أن يخسر المسرح صوتا كالصهيل
كل شيء محتمل ما عدا أن يهجم الصمت
والهجر وجيش الانسحاب
ها هنا ينتفض القلب ويخشى من تفاصيل الغياب
فينادي الكلمات وجيوش المفردات وتواقيع الخليل
شاعرنا حرّك مجاديفه بعيداً يستغرق أحلامه ملونة بآلامه.. في صراع مع نفسه بين ما يرفض وما يقبل وما لا يقدر على تحمله..
أنت يا صوتا تحدى وحشتي
وتجلى في زوايا وحدتي
اغضبي مثل السماء حينما تغضب تبكي مطرا
أو كما الصحراء إذا ما غضبت انبتت ورداً وعشبا ونخيل
أو كما الخيل إذا ما غضبت مرة أو مرتين
عبّرت عن غضبتيها بالصهيل
جميل أن تغضب السماء بالمطر. والصحراء بالنماء والخيل بصهيلها الذي يشنف الأسماع
يبدو أن غيمة ممطرة تغطي سماء مدينتنا (الرياض) أليست رياضا؟!
سماء الرياض ملبدة بسحاب الكلام المطير
ووميض الورق في فضاءاتها
يلوح القصيد بنوح اليمام يبوق الورق
إنه سحاب يمطر فكراً. نثرا وشعرا.. هذا ما عناه الشاعر أن يورق شجرة الحياة من عطاء العقل.. تماما كما تورق الأرض بنماء المطر
هنا تستفيق الرياض بنبض المحبين والعاشقين
هنا تستفيق الرياض على شاطئ الرمل
فوق رؤوس الجبال وفي ردهات الحضارة كالمهرة النافرة
رياضنا جميلة تستحق كل هذا التوصيف
(ليلة إعدام النهر) من يقوى على إعدام النهر؟ وبأي مقصلة؟ وبأي جلاد؟ هذا ما لا نعمله! ولا نتخيله!
كانت الشمس في الغرب والغيم في الشرق
والحب للمدنفين.. وللمجد بين المطر
مدخل لعملية الإعدام.. طالت أيضا الجائعين والهائمين والخائفين والعاشقين دون خبز ولا بيت ولا أمن ولا قمر!
كيف يأتي المطر وقد أطلقوا النار صوب السحاب؟
وماذا يفيد النظر إذا أعدموا الشمس والفجر والنجوم والياسمين؟
لقد لوثّ الليل قبضته باغتيال النهار!
ويضع نقطة فوق حروفه دون لبس.. ان القبح الذي يجتاح العصر.. كل شيء مستباح ومستهدف.. الجمال.. القيم.. الفن ..الشعر.. الضوء حتى الأوردة مزقت على يد غائلة الشر وغيلان البشر.. وسماسرة القبح.
لكل سؤال جواب.. منه جاء السؤال:
لماذا تنهر الكلاب أناساً يرومون إطعامها؟
ولماذا انغض فتى كان يطعما اللحم قبل الزوال
ومنه أيضا كان الجواب:
لأن الكلاب كلاب!! وتكفر بالنعمة الدائمة
يا عزيزي الكلاب أوفى من الإنسان للإنسان بها يضرب المثل في الوفاء انها كالحمار دائما مظلومة!
ويسأل من جديد:
كل من رفعت يده راية للجهاد وادعى أنه من سلاسلتنا
تداعت له عاديات الجياد محملة بالهوى والعتاد
ومحفوفة بالرؤى الهائمة
ولكن دون جواب:
كل من طمعت نفسه في الصعود
وادعى أنه ينضوي تحت راياتنا
فتحنا له أرضنا والسماء
دعونا لنصرته في السجود
وثرنا على الأمم الظالمة
وتتلاحق المشاهد آخذة أكثر من زاوية يعبر بها عن فكرة خطرت بباله لابد وأن يُجليها:
ولا تبتئس فسوف نظل بسيطين حتى حدود الفلس
وسوف نضيف إلى سفرنا
فصولا من الهجر حتى الفلس
أتدري لماذا؟ لان عواطفنا ثرة
ولأن دواخلنا حالمة..
ويظل شاعرنا في موقفه لا يتزحزح عنه قيد أنملة.. يشده الثبات إلى حلمه المستوطن في أعماقه..
ولن نتغير.. لن نتغير.. لن نتغير
مهما تداعت علينا الأمم
ومهما اكتشفنا خداع القمم
سنركض خلف السراب
ونطرق أبواب أهل الحذيفة بابا فباب
ونحلم بالوحدة النائمة..
الأجدى من الحلم وحده أن يرقى إلى علم تتداعى أمامه مخاطر المستقبل الذي لا يحترم إلا الأقوياء الموفون بعهودهم.. أخيراً.. مع المسرحية.. أبطالها صغار ومشاهديها كبار
يطيرون في ساحة البيت ينفتض الوجد في حلو أصواتهم
وتجري ملامحهم في فضاء البصر
يطيرون في ساحة البيت ثم نصير الشجر
يصفهم وهو شاخص بعينيه إليهم في تحنان
مثل سرب العصافير حين يحوم
يطيرون في فلك الحب جذلى
تفر الهموم تخرج عبر النوافد مهزومة
أمام جيوش براءتهم
إنهم كائنات من الطير لكن أسماءهم كالبشر
في المساء ينام الصغار كنوم العصافير بين الكهوف
يستسلمون لأحلامهم فجأة وأرواحهم في الفناء تطوف
يظل صدى عذب أصواتهم يوشوشنا كالوتر
في الصباح تضيء عيون الصغار
يكحلون عيون ذويهم بورد الفرح
تشقق أفواهم واحدا واحدا
ينزلون على نخلة القلب يبدون بين سعفاتها كالبلح
ينزلون لساحاتهم كالمطر..
تأملات لا تخلو من عذوبة وجودة.. غيمتان عشناهما.. أما الثالثة فقصائد شعبية لا ناقة لي فيها ولا جمل تجاوزتها الغيمات الثلاث مجرد عناوين لا تلحظها العين.. يمكن لمسها بالحس ولكن عن بُعد.. شاعرنا العسعوس كنت صديقا ورفيقا في رحلة شعر شيقة.
***
حمد العسعوس الخالدي
77 صفحة من القطع الكبير
الرياض ص. ب 231185الرمز 11321 فاكس 2053338