لم تستطع (المناهج الشكلية) التي تتزعمها (البنيوية) الصمود كثيراً، فقد وُجِّهت لها الانتقادات وكُشفت فيها العيوب، وكان من أبرز تلك الانتقادات والعيوب تلك (الأحادية الرؤيوية) التي نظرت من خلالها إلى (النصوص الأدبية)، وقاربت (الخطاب الإبداعي) على أساسها، فقد كان اهتمامها موجهاً إلى (النص) ب(لغته) و(شكله) و(أسلوبه)، وغضَّت النظر نهائياً عن أية (ملابسات خارجية) حتى لو كانت مُساعدةً في فهم (النص) والتحليق في فضاءاته، بل إن فشل (البنيوية) تجلَّى كذلك في القصور عن تحقيق (الدلالة) و(المعنى)، عندما استغرقها دراسة (العلامة) و(الأنساق) الصغرى والكبرى؛ بحثا عن (النظام) في (النص)، وسواء كان هذا (النظام) (لغوياً) أو (أدبياً)، فإنَّ ما سوف ينتج في النهاية هو نحو القصيدة وليس (دلالتها) أو (معناها).
ولهذا كانت الظروف مهيأة لظهور مناهج نقد (ما بعد الحداثة) التي يتصدرها منهجان حاولا استدراك ما وقع فيه (نقد الحداثة) من أخطاء وعيوب أدى إلى عدم استمراره، وهما: (المنهج التفكيكي) و(نظرية التلقي/ القراءة)، اللذان يلتقيان عند نقاط مشتركة كثيرة أهمها التعويل على (القارئ) في (إنتاج الدلالة)، والاعتماد على (المتلقي) في (قراءة النص) و(إعادة كتابته).
إن هذا التعويل على (القارئ) وذلك الاعتماد على (المتلقي) لم يكن سوى (ردَّة فعل) طبيعية على تلك (الأحادية) التي انتهجها (النقد الحداثي) حين عوَّل على (النص) واعتمد على (اللغة) في (الممارسة النقدية)، فقد رأت هذه المناهج أنَّ (إنتاج المعنى) و(الكشف عن الدلالة) لا يمكن أن يكون من (النص)، بل إن (النص) غير قادر على القيام بهذه الوظيفة التي تسعى إليها المناهج جميعها، وبما أن (المناهج التقليدية) كانت تعتمد على (المؤلف) و(الظروف الخارجية) فقد حان دور (الطرف الثالث) في هذه (العملية) لكي تُنقل (السلطة الأدبية) إليه، وهو (القارئ/ المتلقي)، بعد أن كان مهيمناً على هذه السلطة (المؤلف) ومن بعده (النص).
أضف إلى هذا (طبيعة العصر) الذي وجدت فيه (المناهج) أرضاً خصبة للظهور، فقد كان العصر متسماً ب(الفوضى) و(الشك) و(انعدام اليقينية) وشيوع (روح التجريب)، فإذا كان (الشك) هو الذي جعل (المناهج الشكلية) تهمل (الملابسات الخارجية) في (تفسير النص) والاعتماد على (النص) فحسب في ذلك فإن هذا (الشك) قد بلغ أعلى درجاته في هذا العصر ليصل إلى (اللغة) نفسها، فلم يعد هناك (نظام لغوي) موثوق بصحته، ولم يصبح هناك (علاقة يقينية) بين (الدال) و(المدلول) في هذا (النظام)، وما دام الحال كذلك فلن يستطيع (النص) أن يكشف لنا عن (الدلالة) التي ورائه، و(المعنى) الذي يريد قوله، لذا توجهت الأنظار إلى (القارئ/ المتلقي) الذي نقلت إليه هذه المناهج (السلطة الأدبية)، فصار هو الوحيد القادر على (تفسير النص) كما يريد، وأن يقول فيه ما يشاء، بل هو الذي (ينتجه) و(يعيد كتابته) من جديد.
ولهذه بدأت هذه المناهج بالترويج لأفكارها ومبادئها التي تعزز من هذه (الرؤية)، فقد رأوا أن (النص) غير متجانس ولا منضبط ولا محكم، بل فيه (فجوات) و(ثغرات) وقابل للنقض والهدم و(الفك)؛ تحقيقاً لفكرتهم التي ترى استطاعة استنباط (دلالات) و(معانٍ) لا حصر لها، وإنتاج (قراءات) (لا نهائية)، وهذا تحد واضح لفكرة (البنيوية) التي رأت أن (النص) له بنية محكمة منضبطة؛ ولذلك هم يرون انتفاء (المركزية الثابتة) للنص، لأن هذه المناهج قامت في الأصل على إلغاء (مركزية) الأشياء.
بل إنَّ من أفكارهم رفض (النص)، و(التشكيك) في وجوده، فظهر لديهم (موت النص)، ولا وجود إلا (للقارئ) الذي يعيد إنتاج هذا (النص) الذي لا وجود له من غير (القارئ)، ف(النص) لديهم شيء (هلامي) يُشكِّلهُ ويقوله ويعيد بناءه (القارئ) فحسب، و(النص الحداثي) لا يقول شيئا محددا، وكل ما يُفسَّر به هو مجرد حدس وتخمين لا أقل ولا أكثر، وإذا كانت (البنيوية) رأت أن (النص) (مغلق) فقد رأت هذه المناهج أن (النص) (مفتوح) على (القارئ) فقط لا على غيره من (مؤلف) أو (ظروف خارجية)، وللقارئ (السلطة) الحقيقية دون قيود، ولذلك يقول Roland Barthes (رولان بارت): (العمل الأدبي لا يمكن أن يعني أي شيء مهما يكن، والأمر هو أن الأدب لم يعد ذلك الموضوع الذي ينبغي للنقد أن يتقيد به، بقدر ما هو فضاء حر يمكن فيه للنقد أن يلهو ويلعب)، ويقول Paul Deman (بول ديمان): (الدال صار مدلولا والمدلول صار دالا)!
ولتحقيق هذه (الرؤية) بشكل أكبر كان لا بد لهذه المناهج من العمل على (إستراتيجيات) و(أفكار) تعزز من مكانة (القارئ/ المتلقي)، وتعينه على القيام بعمله الضخم الذي أُسند إليه، كان من أهمها فكرة (الإرجاء/ التأجيل) التي تعني أن (المعنى) (مؤجَّلٌ) دائماً لا يمكن الوصول إليه أبدا بسبب انتفاء (العلاقة اليقينية) بين (الدال) و(المدلول) وإحالة ذلك إلى (القارئ)، وفكرة (الانتشار/التشتت) التي تشير إلى أن (المعنى) (مشتتٌ) ومبعثر على (أسطح النص) يصعب القبض عليه ولملمته، وفكرة التعويل على (الكتابة) وتعظيمها بوصفها الوسيلة المثلى لإعطاء (السلطان المطلق) للتلاعب ب(النص) كيفما يُراد، والقدرة على (تحوير النص) و(إعادة إنتاجه)، والنظر إلى (القارئ) على أنه (المنتج الجديد) للنص، وفكرة (الحضور والغياب) التي تعني أن (المعنى) و(الدلالة) في حالة (غياب دائمة) في الأصل، وأن (اللغة) لا يمكن أن تفلح إطلاقا في (إحضار) الأشياء في (الوعي)، وأن هناك دائما جانبا (خفيا) في (النص) لا يمكن الإمساك به أو القبض عليه من (الذات) أو (اللغة)، فالنص حامل لأسرار (لا نهائية)، ومهما استحضرت منه من (المعاني) من خلال (التأويلات) و(التفسيرات) و(الشرح) لا يمكن أن تصل إلى المقصود منه، فهو في حالة (غياب دائم).
كما كان من أفكار هذه المناهج (أفق الانتظار) أو (أفق التوقع) الذي يعني أن لكل قارئ (معياراً) خاصاً حين يستقبل (النص)، و(تهيؤاً) مسبقا عند (مقاربته)، كما قويت عند هذه المناهج بعض الأفكار السابقة التي تعزز من (رؤيتها)، مثل فكرة (التناص) التي ترسخ فكرة (الغياب)، وهي تعني أنه لا يمكن فهم أي (نص) دون العودة إلى ما سبقه من (النصوص) التي يكون (المعنى) مغيباً فيها، وفكرة (موت المؤلف) و(انتفاء القصدية) التي تحدثت عنها عند (البنيويون)، ونراها هنا تقوى بشكل كبير، وتعزز من جعل (الدلالة) في حالة (غياب) و(التباس دائم).
إن المتأمل في هذه (الأفكار) و(الإستراتيجيات) التي آمنت بها هذه (المناهج) وسارت عليها سيلحظ قوة إيمانها بدور (القارئ) في (إنتاج الدلالة)، وشدة تعويلها على (المتلقي) في (تفسير النص) و(الكشف عن معانيه)، فلا (المؤلف) ولا (النص) سيقدران على أداء هذه (الوظيفة)، ولا اعتبار هنا إلا (للقارئ)، فكل (الصيد) في جوفه، وهذا الأمر أدَّى على العديد من الإشكالات (النصية) حين (مقاربة) (الخطاب الإبداعي)، أوضحها وأقربها فتح باب (الفوضى) في (التفسير)، لغياب (النص) الثابت واختفاء (المركز) أو (الجوهر)، والاعتماد على (اللعب الحر) و(لا نهائية القراءات)، مما يعني أن كل (القراءات/إساءات القراءة) متساوية، وهو استنتاج منطقي في ظل غياب (النص) الثابت الذي يمكن أن نرجع إليه، وبالتالي فنحن لسنا مطالبين - في إبداع (قراءة جديدة/إساءة قراءة جديدة) للنص - بتقديم أي قرائن أو أدلة من داخل (النص) لتعضيد ما نقول، ف(النص) لا وجود له، و(القارئ) وحده هو الذي يخلق (النص) كما يحلو له، ويمنحه (دلالاته) ووجوده كما يريد.
لقد أوصلت هذه (الأحادية) في (الرؤية) تلك (المناهج) إلى حدِّ (التطرف) والمبالغة، فقد وصل الأمر لديهم إلى أن تكون وظيفة (القارئ/ المتلقي) ليس اكتشاف (النص)، بل (كتابته) و(إعادة إنتاجه) من جديد دون حدود واضحة يُحتكم إليها حين يقدم هذه (الكتابة) أو تلك (الإنتاجية)، مما يؤدي في النهاية إلى (فوضوية) عارمة و(عبث) صارخ في (مقاربة) (النصوص) ومحاولة (قراءتها) و(نقدها)، وليت الأمر وقف عند هذا، بل هم يرون أن كل (قراءة للنص) هي (إساءة) للقراءة السابقة ودليل على فشلها، وهكذا تتوالى (القراءات) وتتعدد (الإنتاجات) للوصول إلى (اللاوصول).
لقد زلت القدم بهذه (المناهج النقدية) على اختلافها وتعددها حين تصورت أن (مقاربة) (النص الأدبي) لا يتم بشكل صحيح إلا بتبني هذه (الرؤية الأحادية)، وأخطأت حين (تطرفت) في (ردة فعلها) على المناهج التي سبقتها، وفشلت حين بالغت في الاعتماد على (سلطة) واحدة في (الممارسة النقدية)، فمن (سلطة المؤلف) إلى (سلطة النص) إلى (سلطة القارئ)، والنتيجة: (لم ينجح أحد)!
Omar1401@gmail.com
الرياض